الفلسفة الغربية الحديثة وإشكالية منهج المعرفة
رشيد عوبدة
الفلسفة و المنهج :
طرحت علاقة الفلسفة بالمنهج مع الفلسفة الحديثة فما هي العوامل التي كانت وراء ظهور هذه الفلسفة و كيف تحددت العلاقة بين الفلسفة و المنهج؟ ترجع الفلسفة الحديثة الى حركتين عظيمتين :
النهضة الفكرية و احياء الثراث اليوناني ابتداء من منتصف القرن 15م حيث أثرت المدنية اليونانية في عقول الغربيين وشقت طريقها من ايطاليا و اسبانيا و شملت فيما بعد جميع انحاء اروبا .
تليها حركة الاصلاح الديني التي كان مبعثها ثورة عاى سلطة الكنيسة ،فاعطت للانسان حق الحكم الشخصي وبهذا تحررت العقول من العبودية و استيقظ الغرب من غفلته فأحس بقدرة العقل على اكتشاف أسرار الطبيعة وهكذا استقلت الفلسفة عن الدين و انبثق فجر الفلسفة الحديثة في عالم الفكر متبلورا في اتجاهات وآفاق فلسفية .فما هي اهم الاتجاهات الفلسفية الحديثة؟
الاتجاه العقلاني : يرى العقلانيون أن العقل وحده هو مصدر المعرفة اليقينية لأنه يشتمل على جملة من الاستعدادات و المعارف الأولية السابقة على كل تجربة ،فهو يستطيع الحصول على معارف يقينية بواسطة قواه الخاصة دون حاجة الى الحواس التي من طبيعتها انها تخطئ .وقد كان الفيلسوف رونيه ديكارت يرغب في ارساء بنائه الفلسفي على اسس مثينة مما دفعه الى الشك في كل المعارف التي سبق ان تلقاها ،ولم يكن شكه هذا لأجل الشك، بل كان بمثابة أضمن طريق للوصول الى اليقين، وهو ما يعرف ب"الشك المنهجي"،فمن خلال هذا الشك أثبت ديكارت حقيقة أولى و هي حقيقة الشك نفسه يقول في هذا الصدد:" فأنا وان شككت في كل شيء لا أستطيع الشك في الشك نفسه" ومن تم توصل الى اليقين الاول "أنا أشك أنا أفكر، أنا أفكر إذن أنا موجود"و هذا ما يعرف بالكوجيطو الديكارتي.
أما أصالة ديكارت فإنها قائمة في المنهج الذي سلكه ووضع قواعده في كتابه"مقال في المنهج"، وقد اعتبر المنهج الرياضي هو نموذج اليقين لأنه يقوم على الحدس العقلي و الاستنباط، أما قواعد المنهج الديكارتي فقد حدده صاحبها في :
قاعدة الشك والبداهة : و تتطلب ألا أقبل إلا ماهو بديهي وقائم على الحدس العقلي لفكرة واضحة و متميزة وهي واضحة عندما ندرك جميع عناصرها،ومتميزة عندما لا أخلطها مع أي فكرة أخرى غيرها فينتج عن هذه القاعدة أن المعرفة اليقينية لا تقبل الشك.
قاعدة التحليل و التركيب: في هذه القاعدة نقوم بتحليل وتقسيم المشكلات بقدر المستطاع يقول ديكارت عنها "أن اقسم كل واحدة من المعضلات التي أبحتها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه"" وتفيد قاعدة التحليل محاولة تحليل الحقائق وذلك من خلال تقسيمها إلى أجزاء و إلى حد يسمح بدراستها وتحليلها.
قاعدة الترتيب و التركيب: يقول فيها ديكارت "أن أرتب أفكاري فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة فالفكرة تكون أيسر عندما تكون متقدمة على غيرها في سلسلة الاستدلالات وتكون أكثر بداهة "أن أتدرج في الصعود شيئا فشيئا حتى أصل إلى معرفة أكثر الأمور تركيبا" حيث أن الفكر في سلاسل الاستنتاج له مراتب فالفكرة البسيطة تكون متقدمة على الصعبة والصعبة أكثر تركيبيا من البسيطة، "بل افرض ترتيبا بين الأمور التي يسبق بعضها بعضا،" تعد مرحلة التركيب المرحلة التالية بعد القيام بالتحليل حيث أنها مرحلة مهمة عند ديكارت لأنها تنبع من قاعدة التحليل وتنفتح على الرياضيات فهي تطبيق للمنهج الرياضي على الفكر الفلسفي لهذا يبدأ التفكير في الحقيقة البسيطة الأولى التي يبني على إثرها فيما بعد حقائق كبرى أي يتدرج منها إلى حقائق مركبة.
قاعدة المراجعة والإحصاء: هي قاعدة تدعونا إلى أن نتأكد أننا لم نغفل أي جزء من أجزاء المشكلة التي قمنا بتحليلها، وأن نقوم باستعراض الاستدلالات بحركة متصلة "أن أقوم في جميع الأحوال بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئا"، تعني وجوب عدم إغفال دراسة أي عنصر من عناصر المشكلة موضوع البحث.
وقد كانت تأملاته التي وضعها في كتابه "تأملات ميتافيزيقية"تمثل محاولة جذرية بمراجعة جميع البداهات الأخرى باعتماد سبيل الشك المنهجي كوسيلة للوصول الى البداهة الاولى التي تقوم عليها جميع البداهات الأخرى ألا وهي بداهة الكوجيطو "أنا أفكر،إذن أنا موجود"و هي بداهة لا يطالها الشك لانها قائمة على حدس منطقي لايتوقف على الجسم وحواسه و لا على المعارف السابقة التي تملكها الذات.
الاتجاه التجريبي : في مقابل الاتجاه العقلاني نجد الاتجاه التجريبي الذي مثله مجموعة من الفلاسفة الانجليز امثال جون لوك ودافيد هيوم ، وهو اتجاه انطلق من تصور اعتبر فيه ان الحواس والتجربة هما مصدرا المعرفة ،لان العقل صفحة بيضاء و ما ينقش فيه مصدره التجربة والحواس ،بل لقد اعتبر هيوم ان العقل البشري تحدق به اربعة انواع من الاوهام وهي
- أوهام القبيلة او الجنس: إنها ظاهرة بشرية وداء عام مشترك بين بنى الإنسان، أى خاصة بالجنس أو النوع الإنسانى كله ومتأصلة فى تركيب العقل الإنسانى، فتكون كالمرآة الزائفة التى تفسد الأشكال والصور، فالعقل لا يقبل إلا ما يوافق غروره ولا يلتفت إلى التجارب التى لا ترضى هواه، وهكذا يكون تفسيرنا للخرافات كالسحر والأحلام والتنجيم، تلك رذيلة جماعية بسبب تحكم أمانينا فى إتجاه تفكيرنا.
أوهام الكهف: وهى نقاط الضعف البشرية فى كل شخص، وهذه لا حصر لها ولا عدد ويقرر بيكون أن ما يحيط بكل فرد من ظروف وملابسات الحياة ومقومات شخصية خاصة كالمستوى الثقافى وطبيعة المهنة والبيئة الإجتماعية، كل هذا يحصر عقلية الفرد فى إطار معين من التفكير ويفرض عليه نوعاً من العزلة كأنه فى واد بعيد أو كهف، وقد أشار أفلاطون إلى هذا النوع من الوهم فى أسطورة الكهف، فكل فيلسوف سجين كهفه وهو لا يفكر إلا طبقاً لمزاجه الخاص.
أوهام السوق: وهى الأخطار الناجمة عن ميل الذهن إلى الإنبهار بالألفاظ وهو خطأ يتفشى فى الفلسفة بوجه خاص، وقد نشأ نتيجة لغة التخاطب بين الجماعات المختلفة، يلتقى الناس فى المقاهى والأندية العامة والأسواق التجارية وغيرها من مواطن الإجتماع فيتحادثون فى مختلف الشؤون بلغة مشتركة بعيدة عن المنطق، وفى ظل هذه اللقاءات تفقد الألفاظ دلالتها الحقيقية وتعجز اللغة عن تحقيق وظيفتها التى هى التعبير الصادق عما يستقر فى الذهن.
أوهام المسرح: وهى الأخطاء التى تنشأ عن المذاهب والمدارس الفكرية أو التى تنشأ نتيجة للتأثر بالقيادات أو الأشخاص ذات التأثير العميق على بعض الأفراد، وهنا يقصد بيكون أرسطو بوجه خاص، فيفتن الناس فى كل زمان بمشاهير الرجال ويتلقون أرائهم بالتسليم والقبول دون أن يتطرق إلى أذهانهم الشك فى صحة هذه الأراء، مثال ذلك ما حدث لمعاصر بيكون ( جاليليو ) فقد قرر هذا العالم أنه لو قذف من مكان عال بحجرين أحدهما يزن رطل والأخر عشرة أرطال، فإن كلاهما يصل فى نفس الوقت، وقد أجرى جاليليو هذه التجربة على ملأ من أساتذة الجامعة، ورغم نجاحها وصدقها واقعياً إلا أن المشاهدين كذبوا أعينهم وذلك لأن أرسطو قال بعكس ذلك.
هذه هى أوهام الخاصة من العلماء والفلاسفة وعلينا إذاً تخليص العقل من الأوهام وأن نستبدله بعقل سليم، لهذا أراد بيكون وضع أصول منهج جديد يقضى على جميع الأفكار الخاطئة.
الاتجاه النقدي : و قد قام ايمانويل كانط بمحاولته النقدية التي تهدف الى حل مشكل هذه الثنائية (ثنائية العقل و الحواس)ومن تم اعتمد منهج التوفيق بين المعطيات الحسية و المفاهيم العقلية فكلاهما ينتجان المعرفة ،يقول كانط "الحدوس الحسية بدون مفاهيم عقلية تبقى عمياء ،و المفاهيم العقلية بدون حوس حسية تبقى جوفاء"
اذن هناك مصدرين للمعرفة البشرية في رأي كانط ألا وهما الحساسية والفهم ؛ والمصدر الأول هو الذي يمدنا بالموضوعات، في حين أن المصدر الثاني هو الذي يسمح لنا بتعقل تلك الموضوعات. ولكن كانط حتى حين يتحدث عن الحساسية، فإنه يفرّق بين صورة الحدوث الحسّية ومادّتها، على إعتبار أن المادة هي موضوع الإدراك الحسي، أو هي ما يقابل”الإحساس”في صميم الظاهرة، في حين أن”الصورة”هي ألمبدأ الباطن في الذات العارفة، والذي يسمح لها بتنظيم مضمون الظاهرة، وفقاً لبعض المعلومات الخاصة، ومعنى هذا أن المادة تمثل كل ما يصدر عن الموضوع، وما هو بطبيعته متغير حادث، في حين أن الصورة تمثل كل ما يصدر عن الذات، وما هو بطبيعته كلي ضروري... فالمعطيات الحسّية هي إمدادات حقيقية ترد الينا من العالم الواقعي، وليست مجرد أوهام ذاتية من نسج العقل، كما وقع في ظن أصحاب المثالية الذاتية. ولكن ليست مهمة نقد المعرفة سوى العمل على تبين ما يرد إلينا من الخارج، وما نضفيه نحن على المعطيات الحسية، عن طريق ما لدينا من صور أولية سابقة على التجربة. وبالنسبة الى المكان والزمان باعتبار هما صورتي الحساسية، فإن كانط يرى أن المكان والزمان هما صورتان أوليتان تخلعهما الحساسية على شتى المعطيات الحية التي ترد إليها من الخارج، دون أن يكون لهما أدنى وجود واقعي في العالم الخارجي، باعتبارهما موضوعين قائمين بذاتهما.