منتديات الفردوس المفقود
عزيزي الزائر يشرفنا إنضمامك لأسرة المنتدي بالضغط علي كلمة التسجيل وإن كنت عضوا في المنتدي فبادر بالضغط علي كلمة دخول وأكتب أسمك وكلمة السر فنحن في إنتظارك لتنضم إلينا
منتديات الفردوس المفقود
عزيزي الزائر يشرفنا إنضمامك لأسرة المنتدي بالضغط علي كلمة التسجيل وإن كنت عضوا في المنتدي فبادر بالضغط علي كلمة دخول وأكتب أسمك وكلمة السر فنحن في إنتظارك لتنضم إلينا
منتديات الفردوس المفقود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات الفردوس المفقود

منتدى للابداع والتربية والترفيه
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالمنشوراتالتسجيلدخول
أخي الزائر بعد تسجيلك بالمنتدى سيعمل مدير المنتدى على تنشيط عضويتك ..وشكرا
اهلا وسهلا بك يا زائر
توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر 21_05_1213376309211
توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر 052112130544nzhmb91h8rjfmgyu
الى كل أعضاء الفردوس المفقود وطاقم الاشراف والمراقبة والادارة المرجو ايلاء الردود عناية خاصة
مطلوب مشرفين لجميع الاقسام
Google 1+
Google 1+
التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني




 

 توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
Admin
المدير العام
المدير العام



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 4797
نقاط : 8690
السٌّمعَة : 481
تاريخ التسجيل : 09/12/2011
الموقع : https://wwpr.forummaroc.net/

الأوسمة
 :

توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر   توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر Emptyالأربعاء أكتوبر 17, 2012 7:26 pm

توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر مسألة في غاية الأهمية، فما من شاعر عربي معاصر معروف إلا و استخدم الأسطورة في أعماله، و هناك حالات استثنائية و طفيفة لا يقاس عليها . إن الأسطورة تشكل نظاما خاصا في بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، و قد يبدو هذا النظام عصيا على الضبط و التحديد، و ذلك لضبابية الرؤية المراد طرحها في النص الشعري، و لكثافة الأسطورة نفسها غموضا و تداخلا مع حقول معرفية أخرى. فعندما نستحضر الأسطورة فإننا نستحضر التاريخ متداخلا مع الميثولوجيا و الخرافة، و الحكاية الشعبية، و هنا يصعب علينا معرفة أوجهها كاملة، و ذلك لتناصها مع هذه الحقول المعرفية الأخرى، فهل الأسطورة هي الخرافة أم هي التاريخ أم الفلكلور أم هي الحكاية الشعبية أم هي جزء مهم من اثنولوجيا وصفية، لاتزال بوصفها بنية معرفية عميقة، تتعلق بمعتقدات الشعوب و روحانياتها و تقاليدها، تفعل فعلها في حياتنا المعاصرة ؟. إنها مزيج من هذا و ذاك، و لذا فهي عصية على الضبط و التحديد. إنها رؤية متنامية متشعبة في بنية الزمان التاريخي، و المكان الأثنوجرافي، و تصبح الأسطورة أحيانا تاريخا و « كل أسطورة تروي تاريخا ». على حد تعبير كلود ليفي شتراوس [1]. و تصبح خرافة، و تداخلها مع الخرافة يزيدها تعمية و غموضا، و التاريخ نفسه يصبح لدى جيل من الأجيال أسطورة. فبغض النظر عن كون شخصيتي شهرزاد و شهريار من التاريخ أو الأسطورة، فإنهما يبقيان في بنيتهما العامة جزءا من السحر و الأسطورة و الخرافة و التاريخ و الميثولوجيا و الفكر و الفن في آن .

و تاريخيا كانت الأسطورة هي ملاذ الإنسان الأول، للانتصار على خيباته، و لتخطي فواجعه، و سياسيا كانت محاولة لخلق بديل جديد، أكثر إشراقا وجمالا، إنها النافذة التي يرى الإنسان العربي من خلالها النور و الفرح، لأنها تخلق له حالة توازن نفسي مع محيطه و مجتمعه، فبوساطتها تتم عملية الحلم و التخيل، و الاستذكار، فإذا كان الواقع فاسدا ظالما، و مرا، و الإنسان فيه غير قادر على تحقيق أبسط متطلباته، نتيجة لسلطة هذا الواقع المدمرة إنسانيا و أخلاقيا، فالحلم و الثورة هما الوسيلتان الوحيدتان لتخطي هذا الواقع، قد تتأخر الثورة، و قد تلغى، و قد تغيب، لكن الحلم دائما يحضر، و « يجن الانسان حينما يمنع من الحلم » على حد تعبير بودلير. إن الحلم هو الوجه الآخر للشعر كما يرى هربرت ريد [2] ، و « لو استطعنا أن نروي أحلامنا لأمكننا أن نروي شعرا متواصلا ». و بالرغم من التحليلات الاجتماعية التي تؤكد أن اللجوء إلى الفكر الأسطوري، هو هروب من مواجهة الواقع، و هو دعوة لسيادة الظلم، و دعوة إلى إلغاء العقل « فالفكر الأسطوري القائم على أساس غيبي لا عقلاني (…) له منطقه المختلف تماما عن منطق الفكر الموضوعي. و الأسطورة المكونة لهذا الفكر تنزع دائما إلى إضفاء صفات قدسية غامضة على مواضيعها و أشيائها و أشخاصها. ولا مشاحة أن الأسطورة لها، عمليا، مستلزمات غيبية تستند إليها في الواقع، و تنعكس بواسطتها على المجتمع و على السلوك السياسي، الطبقي فيه. فالوسائل المتولدة من جراء الأسطورة أو المولدة لبعضها، تتحول في المجتمع إلى أدوات إضافية للسيطرة ملكية طبقة محددة لوسائل الممارسة الأسطورية إذا جاز التعبير والافتراض» [3]، و هو تكريس للعبودية الاجتماعية التي تعتمد عليها السلطة السياسية ضمانا لاستمرار سلطتها، ف « الفكر الأسطوري إذ يقدم للإنسان مثالا عن إرادة القوة الغيبية، يضعه في نفس الوقت في وضع (العبد) المندهش، المرتعب من سلطان هذه القوة، التي يزعم المستبدون أنهم يمثلونها أو ينطقون باسمها » [4].

و بالرغم من هذه التحليلات، فإن الأسطورة من حيث كونها فكرا و فنا و تاريخا، تشكل خطابا يمكن أن يقال عنه إنه أدبي يتناص مع التاريخ و الميثولوجيا. و ما يجعل الأسطورة خطابا أدبيا، قدرتها على توسيع آفاق المخيلة عن طريق الحلم والتخيل، و ما الأدب في بنيته العميقة إلا نظام رمزي قادر على الإيحاء و التأويل، و من ثم كشف اللاإنساني و اللاأخلاقي في رؤية المجتمعات البشرية و نظام قيمها، وإدانته. و حتى لو آمنا بأنه كلما تراجع المجتمع حضاريا و ثقافيا، و بقي مغلفا بالغيبيات و الشعوذات و السحر، زادت أساطيره و خرافاته، فإن ذلك لا يعني التقليل من شأن الأسطورة، لأنها تبقى عنصرا بنائيا مكونا للفكر الإنساني. ينمو الفكر الإنساني و يتحرر، و يزداد عقلانية مع تطور المعارف و العلوم، لكن ذلك لا يمنع عنه حالة الحلم و التخيل. و الأسطورة في أهم خصائصها أنها رؤية حلمية تخيلية.

و ترافق الأسطورة الإنسان في حله و ترحاله باعتبارها رمزا مضيئا، و قد تتعدد مستويات هذا الرمز، لكنه يبقى على صلة قوية بصيرورة التاريخ، و تشكل طبقاته الاجتماعية، و حينما يسود الفكر الأسطوري قويا و فاعلا لدى أمة من الأمم، فإن ذلك يعني وجود سلطة بتعدد أوجهها تمنع شرائح مجتمعها من العيش بأمان و طمأنينة و سلام روحي، لكن الأسطورة تبقى في المجتمعات المتخلفة حلا جماليا لرفض حالات الاستلاب و الخيبة التي يمر بها إنسان هذه المجتمعات، المفجوع و المقهور في توجهاته و تطلعاته. أما في المجتمعات المتقدمة حضاريا و تكنولوجيا، المتراجعة على مستوى العلاقات الاجتماعية بشرطها الإنساني، فإنها « مرض من أمراض اللغة »، [5] و هي في آن مرض من أمراض لوثات العصر بتعقيداته، و ما تفرزه الحضارة المتقدمة صناعيا من استلاب و تشيؤ.

إننا إذ نستحضر الأسطورة في وقتنا الراهن، حيث الهزائم على كل المستويات، فإن نزعة (نوستالجية) تتأجج في أعماقنا نحو الماضي، و نحو المجهول، و نحو عوالم بكر لم تستكشف بعد. و تزداد هذه النزعة مع خيباتنا المتكررة في ظل أنظمتنا الاجتماعية الغاصة بالتعقيد و الفساد و الجهل.

إن عصر توليد الأساطير Mythopoec Age، قابل لأن يمتد حاضرا و مستقبلا. من منا لم يعجب بأسطورة جلجامش و أنكيدو و توقهما المطلق للدفاع عن قضايا الإنسانية ؟. و من منا لم يعجب بتصميم جلجامش على قطع غابات واسعة، و بحار طويلة للبحث عن النبتة المقدسة التي تعطيه هو و قومه في « أوروك » سر الخلود الأبدي، و التحول من طبقة البشر إلى طبقة الآلهة ؟. و كم كان محزنا حينما سرقت الأفعى النبتة المقدسة التي حصل عليها !. ومن منا لم يعجب بشجاعة جلجامش و أنكيدو حينما قتلا الثور السماوي الذي أرسلته الآلهة لقتل أنكيدو، بعد أن طلبت عشتار ذلك من الإله « آنو » ؟.

« لقد أمسكا بالثور السماوي و مزقا قلبه ..

و هنا اعتلت الربة عشتار سور أوروك ذات الأسوار

و صعدت على شرفات السور و صارت تطلق اللعنة منادية:

الويل لجلجامش الذي أهانني و قتل الثور السماوي

و سمع أنكيدو كلام عشتار هذا

فقطع فخذ الثور السماوي الأيمن و رماه في وجهها

و أنت سوف أصل إليك مثله (سيصيبك مني ما أصابه)

و أعلق أحشاءه إلى جنبك.

و جمعت الربة عشتار الكاهنات المنذورات

و الكاهنات الحبيبات و البغايا المقدسات

و نصبوا النواح على فخذ الثور السماوي الأيمن » [6]

إن اللجوء إلى الأسطورة في الفكر العربي المعاصر هو استحضار للبطولة الغائبة، و حنين لها، و توق لزمن نظيف، و تاريخ غير ملوث بالطغاة و الظلمة. و عندما نستدعي البطل الأسطوري و التاريخي عبر زمن القصيدة و شفافيتها، فإن توقا شديدا يدفعنا لتقمص هذا البطل، و تمثل حالاته، باعتباره المفدي و المخلص و الشعلة التي تنير طريقا مظلما.

إن توليد الأسطورة و خلقها، و إعادة صياغتها عملية جمالية، تهدف إلى البحث عن عالم جميل و مضيء لم تقتله بعد ايديولوحيا السلطة: سلطة السلطة، سلطة الكلمة، و سلطة المجتمع، لكن العصر الذي ولدها و يولدها ليس عصرا مضيئا، فهي تخلق وتولد لتمنع زحف ظلامه و سوداوية ظلمته، على المستوى التخيلي و التأملي.

ما من شاعر عربي مبدع إلا و لاقى الظلم و المهانة، مما كسر شموخه الإنساني و شرده، فلجأ إلى الحلم و التخيل و استخدام الرموز الأسطورية و التاريخية المضيئة و الموحية.

و قبل أن يكون توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر عودة إلى التراث و الميثولوجيا، فإنه رؤية تستمد مكوناتها من الواقع، و اتجاهات هذا الواقع و رؤاه، فالتاريخ و الميثولوجيا و الواقع كلها مكونات للفكر الأسطوري، فالواقع العربي اليوم بتعقيده و غرائبيته، و سوداوية علاقاته و مؤسساته لهو أغرب من الأسطورة، إنه الخرافة عينها التي تفوق حد التخيل و الوصف. و ما من شاعر عربي مبدع إلا و عانى من اغتيال هذا الواقع لأحلامه و فرحه، و حرية قصيدته، فكان اللجوء إلى الأسطورة رفضا لهذا الواقع، و بالتالي كان استخدام الرمز الأسطوري المكثف الدلالة، البعيد الإيحاء، هربا و خوفا من سلطة هذا الواقع، لكي لا يثير الشاعر ظنون سلطة الرقابة وريبتها.

كان الشاعر العربي يرتحل و يحمل همه و هم قصيدته، ورموزه التاريخية و الأسطورية، و أنى حل كان ينشد الفرح و الحرية، عبر دلالات هذه الرموز، فخليل حاوي ذهب إلى لندن و كتب أجمل قصائده « السندباد في رحلته الثامنة »، و بدر شاكر السياب أخذ « أدونيسه » المضرج بدمائه، متنقلا من مشافي بيروت إلى لندن ثم الكويت. و عبد الوهاب البياتي حمل « حلاجه » عبر رحلاته من بغداد إلى بيروت إلى مدريد، و عبد العزيز المقالح أنارت له رموز بلاده: سيف بن ذي يزن، وضاح اليمن، بلقيس، منية النفوس، طريفة، عاقصة، عيروض [7]. لياليه المظلمة عندما كان غريبا و طالب دكتوراه خارج بلاده.

إن تواتر الأسطورة و تناقلها عبر مثاقفة حضارية نامية بين الأمم و الحضارات قديما و حديثا، لدليل حي على قدرتها على النفاذ إلى أعماق الرؤية المعاصرة، باعتبار هذه الرؤية نسقا عصيا على التحديد الزماني و المكاني، إنها ممتدة من الماضي إلى الحاضر. إن بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر لا تعني الانقطاع عن التراث، فقد أثر التراث في تشكيل هذه البنية، و لا يزال يؤثر بدرجات متفاوتة، من شاعر إلى آخر و « قد شغل التراث الإسلامي والعربي مساحة واسعة من التاريخ الإنساني، واستطاع الدارس بعامة و الشاعر الحديث بخاصة أن يجد فيه أمداء رحبة و مواد قيمة يستطيع أن يتعامل معها، و يغني بها فنه. و من هذه المعطيات ما يتمثل في الموروثات الأسطورية و الخرافية التي انتهت إلى حياة العرب في الجاهلية، فتداولوها و تناقلوا أحداثها مثل وادي عبقر و الغول و العنقاء (…) و من ذلك أيضا الأمثال و التراث الشعبي الذي يمثل ثروة غنية بالشخصيات الأسطورية و التاريخية » [8]

و بالرغم من رؤية بعض الشعراء و الباحثين على مستوى التنظير بأن اللجوء إلى التراث ليس فعلا إبداعيا، و أن التراث ليس نبعا ولا مركزا، فإن ذلك لم يمنعهم من الرجوع إلى التراث بشتى توجهاته، بل كانت أجمل قصائدهم و أكثرها شفافية و عمقا إنسانيا، هي التي نهلت من هذا التراث و وظفته يقول أدونيس [9] « ليس التراث مركزا لنا. ليس نبعا و ليس دائرة تحيط بنا. حضورنا الإنساني هو المركز و النبع، و ما سواه و التراث من ضمنه يدور حوله. كيف يريدوننا إذن أن نخضع لما حولنا ؟ لن نخضع. سنظل في تواز معه، سنظل في محاذاته و قبالته. و حين نكتب شعرا سنكون أمناء له قبل أن نكون أمناء لتراثنا. إن الشعر أمام التراث لا وراءه. فليخضع تراثنا لشعرنا نحن. لتجربتنا نحن. لا يهمنا في الدرجة الأولى تراثنا بل وجودنا الشعري في هذه اللحظة من التاريخ، و سنظل أمناء لهذا الوجود. من هنا الفرق الحاسم بيننا و بين الإرثيين: لا يقدم نتاجهم إلا صورة الصورة. أما نحن فنخلق صورة جديدة».

إن العودة إلى التراث لا تعني هيمنة الرؤية التراثية على الرؤية المعاصرة. و لقد استطاع الشاعر العربي المعاصر أن ينطلق من البنية التراثية نفسها، ليبدع بديلا منها، و يتجاوزها، و صارت الحكاية الأسطورية و الخرافية عند الأدباء المعاصرين « ترد إلى عناصرها و كثيرا ما تضاف إليها عناصر جديدة تتواصل مع العناصر التقليدية، ثم يعاد تركيبها جميعا في شكل يشع ضوءا جديدا على الحكاية نفسها، فإذا هي قد تحولت إلى شكل جديد و مغزى جديد، نابعين من الرؤية الفنية و الفكرية للكاتب، تلك الرؤية التي تعتمد على ثقافته و على قدرته على تحليل مجتمعه و الكشف عما في هذا المجتمع من مشاكل إنسانية أو سياسية أو اجتماعية » [10].

صار التراث الأسطوري في القصيدة العربية المعاصرة جزءا من رؤية جمالية، بعد أن تعامل معه الشعراء المعاصرون وفقا لمنظور إنساني و حضاري، إذ إن كثيرا من الرموز التراثية قادرة على الاستمرار في نسق الواقع المعاصر، و بالتالي التحريض على تغييره بفعل إضاءتها التاريخية و دلالة هذه الإضاءة على المستوى الإنساني و الاجتماعي و السياسي. و مع ذلك فالشعر العربي المعاصر ليس وليدا للرؤية التراثية، و لا يمكن أن يكون ذلك بالرغم من الاستفادة من مكونات هذه الرؤية، لأن له شرطه التاريخي و الحضاري، و امتداد هذا الشرط داخل بنية الحياة المعاصرة، بتشعبها و تناميها، و انتصاراتها و فواجعها في آن.

الرؤية التراثية خيط شفيف يربطنا بالتاريخي و الأسطوري و المعاصر و العقلاني، قد ينقطع الخيط، و قد يمتد، و لا يعني انقطاعه فشلا أو قصورا في الرؤية العربية المعاصرة. الرؤية التراثية إضاءة لزمن القصيدة، لكنها ليست ملزمة، إنها رؤية تستنفر بعدا جماليا، لكننا نستطيع تشكيل بديل منها، إنها الرؤية للعالم بتحديد لوسيان غولدمان لمفهوم رؤية العالم، و بامتداد هذه الرؤية ماضيا و حاضرا و مستقبلا، و بقدرة هذه الرؤية على التعامل مع مكونات الفكر الإنساني الثقافي و مع مكونات الأجناس الأدبية كافة. إن مهمة الرؤية الحديثة إحداث خلل في الأنظمة القوالبية الموروثة، في الشكل الشعري، في القافية و الوزن، و بالتالي في المضمون نفسه، و لها دورها في تشكيل زمن جديد خصب و متنام، من أهم ميزاته أنه لا يخضع للتحقيب التاريخي، و التأطير الزمني، باعتباره زمنا منفتحا على جميع أشكال التطور الاقتصادي و الثقافي و الاجتماعي، و على الزوايا المضيئة في كل العصور.

لقد أدخلت الرؤية الحديثة في الشعر على مقولتي « الإبداع لأجل الإبداع »، و « الفن لأجل الفن » مفاهيم جديدة، فالإبداع و جمالية الفن مضافا إليهما حركية التغيير والهدم، تأسيسا للبناء الجديد. و لا قيمة للترف الشكلي و الزخرفي و الإغراق في الحلم، و الهذيانات السريالية، التي طغت على بعض النصوص الشعرية المعاصرة، إلا إذا كان الهدف من ذلك تأسيس رؤية إنسانية قادرة على تعرية زمن الطغيان، طغيان اللغة، و طغيان سلطة معرفية بعينها، « و قد ساعد فتح الأبواب أمام الإبداع الشعري الجديد على وجود هذه التيارات و تعددها داخل حركة الشعر الجديد، ونشأ عن ذلك اجتهادات و تيارات منحرفة لا تنشر سوى هذيان لا علاقة له بالشعر أو بالفن و لا علاقة له بالتجديد أو الابتكار، و خطر هذه التيارات المنحرفة أنها تدفع الجديد نحو اللا مبالاة اللغوية و نحو اللا مبالاة العقلية » [11]. . و لم يكن طغيان الهذيان في الخطاب الشعري العربي المعاصر، إلا تعبيرا عن فشل إنساني عام، مستمد بالدرجة الأولى من بنيات المجتمع القاتمة، و تراجعه و هزائمه. و بغض النظر عن كون الهذيان ظاهرة مرضية في الشعر العربي المعاصر، إلا أنه يستمد كثيرا من مكوناته، من بنية الأسطورة و الخرافة و الأحلام، و التفكير الميثولوجي، لأن الهذيانات الشعرية كثيرا ما ترتبط بامتداد الأسطورة معرفيا و زمنيا، و حينما يتداخل الهذيان مع الحلم و الأسطورة، و الإيحاءات السريالية، تنشأ ظاهرتان شعريتان هما الغموض و الإبهام. فالتداخل العشوائي اللا منظم، المضطرب، و المتوتر يخلق حالة من الإبهام، التي يستحيل فك طلاسمها، و اكتشاف ما وراء ضبابية هذه الطلاسم. أما التداخل الجمالي الرؤيوي، فإنه يشكل حالة شفيفة من الغموض الموحي و المرمز. و الغموض هو مظهر من مظاهر الحداثة في الحركة الشعرية العربية المعاصرة. « و الحقيقة أن لغة الشعر بالفعل غامضة، لكن غموضها لا يرجع إلى عدم قابليتها للفهم، أو خلوها من المعنى، و إنما هو العكس، فلغة الشعر غامضة لأنها مشحونة بالمعاني، المعنى الشعري معان بعضها فوق بعض كطبقات الأرض، منها ما هو ظاهر مكشوف، و منها ما هو باطن يحتاج إلى الكشف و التعمق حتى تصل إليه بقراءة تلو أخرى و بأدوات كثيرة و بديهة يقظة و قلب حي » [12]و عموما ترتبط حالات الإبهام و الغموض بالذاتي و الموضوعي في حياة الشاعر داخل حقله الثقافي و المعرفي و وسطه الاجتماعي و الإنساني.

و يشكل الحلم بالنسبة لكثير من المبدعين مفتاحا للرؤية الشعرية، إنه أساس الفعل الشعري و جوهر العملية الإبداعية بالنسبة لهم، و هنا يشترك الحلم مع الأسطورة في كونهما عملية تخيلية تتخطى حدود الواقع الممكن، إلى أفق أكثر رحابة في بنية الفضاء المكاني و الزماني. يقول الشاعر أنسي الحاج [13] : « خلافا للأكثرية، أنا أؤمن بالحلم، من لا يحلم لا يفعل، الحلم يسبق الفعل، كما يسبق الغيم المطر … الحلم جوهر غير أنه وجود … و الحلم هو العقل و الروح و الخيال. إنه الفردوس الممكن … الحلم أولا، الحلم فوق الجميع، الحلم الذي هو محرض الواقع و روحه و عقله و عصبه، الحلم الذي هو المستقبل، الحلم الذي هو النبي و الشاعر.».

إن التداخل الجمالي آنف الذكر يفرز بدوره تجريبا شعريا، تبدو أهميته في إبداع المتميز، المتنامي و المغاير، من خلال استخدامه للتراث الأسطوري، و استحضار البنيات الجمالية الأسطورية الغائبة عن واقعنا المعاصر، و ما « من شاعر عظيم أو روائي عظيم إلا و قد أضاف من خلال التجريب بعدا جديدا إلى الفن الشعري و الروائي، و أثبت أنه غير خاضع و غير مستسلم لكل المواصفات السائدة و المألوفة. التجريب إذن و محاولة الإضافة نزعة صحية و ضرورية في كل فنان أصيل و في كل كاتب موهوب و في كل شاعر يريد أن يضيف إلى التراث و لا يكرره أو يقلده » [14].

إن استخدام الأسطورة و الرمز و التاريخ في الخطاب الشعري العربي المعاصر نوع من التجريب الجمالي، قبل أن يكون عودة إلى التراث، و التأكيد على حضوره. و هذا التجريب الجمالي في بنيته العميقة ينبغي أن يؤكد مكانة الإنسان، و دوره الحضاري، و يستحضر أعمق مشاعره الإنسانية و أدقها. ف « الأشكال الفنية ليست أشكالا فارغة، و إنما تقوم بوظيفة خاصة في تنمية خبرة الإنسان، و في تنظيم هذه الخبرة، كما تؤدي دورا أساسيا في بناء عالم الإنسان، و في تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من معنى لحياته ولعالمه » [15]، و كل تجريب خلاق مبدع ينبغي أن يكون إنسانيا، و لا قيمة لتجريب على مستوى الشكل الشعري و مضمونه، إذا اقتصر على الظاهرة الشكلية و السطحية، التجريب على مستوى بنية الشكل الجمالي، و إضافة الظواهر الجمالية و المغايرة إلى هذا الشكل أمر ضروري، لكنه ليس كافيا لتحقيق طرفي العملية الإبداعية، فالعملية الإبداعية فكر و فن و نزعة إنسانية و أخلاقية، و هي تحمل مزيدا من الرفض تمهيدا للهدم والمغايرة، لتأسيس أدب إنساني يرفع الإنسان راية و هدفا، و « إذا أراد الأدب العربي أن يدخل مجال العالمية فعليه (…) أن يشغل نفسه بكتابة أدب إنساني صادق مرتبط بهموم الإنسان في هذا الوطن، و ما يحيط به و ما تقع عليه عيناه من مظاهر الألم و الأمل » [16].


أمل دنقل أمل دنقل و تكتنز الأسطورة في بنيتها العميقة دلالات إنسانية و حضارية، استطاع الخطاب الشعري العربي المعاصر أن يكشف هذه الدلالات، بأعمق حالاتها الإنسانية و الوجدانية، و يشير بها إلى حالات إنسانية معاصرة، ف « الأسطورة ليست إلا تراثا بشريا يحمل تفسيرا خاصا لمعنى أو شعور بالذات عند شعب من الشعوب. و الأساطير تحمل بلا شك دلالات إنسانية لم تفقد قيمتها خلال التطور الحضاري. و لقد حاول الأدباء و الفنانون علاج الكثير من هذه الأساطير، و ذلك لتوضيح دلالتها أو تحميلها دلالات وتفسيرات جديدة تتفق مع روح العصر» [17].

الغاية من استخدام الأسطورة في الخطاب الشعري
من أهم سمات القصيدة العربية المعاصرة منذ بداية تشكلاتها الأولى، و انعطافها عن الشكل الشعري التقليدي الاعتماد المكثف على الرموز الأسطورية و التاريخية أنى اكتشفها الشاعر، و لذا فقد كانت أولى اهتمامات الشاعر المعاصر « خلق رموز أسطورية، سواء مستحدثة يلتقطها من الواقع، أو تاريخية يستمدها من التاريخ الثقافي. و العمل على جعل تلك الرموز تستقطب جميع مفاصل النص الشعري و حركاته و تصهرها في قالب وحدة متناغمة » [18].

و يعد توظيف الأسطورة في القصيدة المعاصرة رؤية ثقافية و فنية، تتكىء بدورها على مرجعيات ثقافية أخرى تاريخية و أسطورية. أي أنها ليست رؤية فردية، إنها في المحصلة وعي جمعي، يتشكل جماليا و فكريا لينهل من مرجعيات ثقافية متعددة المصادر و الأبعاد. إن « الشعر بناء لغوي يستمد ركائزه من أبنية الثقافة التي ينتمي إليها الشاعر، لكنه لا يخضع لها، بل يشكل بناء موازيا و معادلا لهذه الأبنية يعكس آليات إنتاج المعرفة لا لتثبيتها و إنما لكشف تناقضاتها» [19].

إن الوعي الفردي للشاعر بالقصيدة ليس آنيا، بتعبير آخر إن له مكونات تنهل من ثقافات فكرية متعددة، قد تكون قريبة الجذور و بعيدتها في آن. و من الصعب أن تدرس البنية الشعرية للخطاب الشعري المعاصر بعيدا عن مكونات هذه البنية، و هنا لا أدعو إلى أن يكون الشعر إسقاطا لمرحلة زمنية بعينها، و لحدث تاريخي بعينه، إن الشعر « يقدم بناء فنيا للمكان الزماني يعتمد على التشكيل المركب، الذي يتم وفق تفاعلاته الخاصة، و يؤدي إلى الخروج من دائرة الزمن المغلقة إلى نهايات مفتوحة تدفع الحركة مع القصيدة كي تتنامى و تستمر و تنتقل من مرحلة إلى مرحلة تالية. و يتم هذا البناء بواسطة اللغة التي يعمل الشعراء على تخصيبها و بث حركية الإبداع في تراكيبها و من ثم تأكيد دور اللغة في تشكيل أبنية الوعي في الثقافة العربية المعاصرة الآن و في زمن يأتي » [20].

و الشعر هو حزمة ضوء مهمتها تجميع بؤر ضوء فرعية أخرى لتصبح رؤية شبه متكاملة و شمولية تجمع ما بين الفكر و الفن و الثقافة و التاريخ و الميثولوجيا و الرمز و الأسطورة، و الوعي بشتى أصنافه، و لا أعني بذلك أن تترهل القصيدة بالخطابات الإيديولوجية و العقائدية و الشعارات السياسية من جراء توظيفها لمختلف هذه المرجعيات بهدف إظهارها ضربا من ضروب الالتزام العقائدي، و بالتالي التأكيد على انتماء شاعرها للقضايا الكبرى، لأن « القضية في الشعر تختلف اختلافا كبيرا عنها في النثر. فلسنا نعني بقضية الشاعر تلك الدوائر المغلقة في عالم الالتزام حيث تتحول القصيدة إلى عقيدة، والمجموعة الشعرية إلى قانون للإيمان. إننا لا نطالب الشاعر المعاصر بما يمكن تسميته « وجهة النظر » التي تفيد الثبات و الاستقرار و التقولب و المحدودية، فالشعر أغنى الملكات الفنية بالحرية. و لذلك هو بعيد تماما عن قيود الإلزام و الالتزام» [21]..

و بالرغم من عدم مطالبتنا الشاعر بالالتزام بأية قيود تثبت وجهة النظر، فإن ذلك لا ينفي أن يكون من مهمة الرمز الأسطوري تعرية واقع الخيبة و السواد الذي يخيم على الذات العربية، و البحث في أغوار هذه الذات للدلالة و الإشارة إلى البؤر القاتمة التي لا تزال تنخر في مكونات هذه الذات، إذ إن هذا الرمز « يضطلع (…) بدور القادح. لذلك تنطلق منه جميع الحركات و تظل تعود إليه مازجة بين الذاتي و الموضوعي، معرية الواقع بكل مأساويته و ترديه. و يصبح صوت الشاعر ملتقى ذلك الحشد الهائل من الحركات يتدخل أحيانا ليسهم في دفعها نحو الذرى الدرامية التي تصبو إلى بلوغها ». [22].

إن استخدام الأسطورة يعني استحضار دلالاتها و طاقاتها الإنسانية و الجمالية، فالجمال و الفن و الدلالة الإنسانية بدلا من الإيديولوجيا أمور باتت مهمة لتأكيد جماليات الخطاب الشعري العربي المعاصر، و من هنا فإن مهمة القصيدة تتجلى في قدرتها على تخلصها من آنيتها و فرديتها و همها الداخلي، لتصبح في المحصلة الدفقة الشعورية و الإنسانية التي يحسها كل منا إزاء القصيدة، و ليس من مهمة القصيدة أيضا أن تشكل حالة شعورية واحدة لدى كل القراء، قد تكون متباينة و مهمتها أن تكون متباينة، لكن لا بد أن تكون قادرة على أن تثير فينا حسا بالجمال و المتعة. و تدفعنا إلى مزيد من تحريك طاقاتنا الفكرية و التخيلية، و الأسطورة ليست حادثة تاريخية، و لا تتركز قيمتها في كونها رؤية تاريخية، بل في قدرتها على أن تكون فنا و جمالا، و رؤية إبداعية، و إن من يوظفها لا بد أن يراعي فيها هذا الجانب الفني و الجمالي، أي تحديدا أن يكشف عن طاقاتها الجمالية و الموسيقية، مع مراعاة جانبها الغنائي. و نأخذ نموذجا لهذا الجانب قصيدة الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر (الملكة و المتسول)، عندما يوظف أسطورة جلجامش مشيرا إلى إغراءات عشتروت لإيقاع جلجامش في حبها، تقول القصيدة:

« ذق دلالي فهو كالشهد لذيذ

… و تنزه عبر حقل مورق أو رابية.

ذق دلالي فهو كالشهد لذيذ

اقترب منه .. اقترب مثل رداء

ثمري كالشهد حلو و جميل

ضم كفيك عليه كرداء

ثمري كالشهد حلو و جميل.

آه مولاي اقترب فهو لذيذ

و شهي كرضاب الشفتين »

و لقد أفادت القصيدة العربية المعاصرة من هذا الجانب الغنائي و نوعت في تشكيلاته، « إن الناظر في طرائق تشكيل القصيدة المعاصرة، و لو نظرة سريعة، يلاحظ أنها تريد أن تفتح لها دربا بين الملحمة و الأسطورة و القصيدة الغنائية بشكلها المتعارف، صحيح أن الملحمة قصيدة طويلة تتسع لتشمل أفعال أبطال عديدين. و الأسطورة هي، بشكل من الأشكال نبوءة. و لكنهما تلتقيان و تتشابهان ». [23].

و الأسطورة كانت في العهود القديمة ذات طابع ملحمي و غنائي. فعلى سبيل المثال يلاحظ أن الطقوس الأسطورية التي كانت تمارس أمام الآلهة كانت تأخذ شكلا غنائيا جماليا مشفوعا بالرقص، و نورد النص الآتي الذي كان يغنى مرافقا للرقص أمام زيوس الإله الإغريقي:

« مرحى - حييت يا أعظم الشباب يا بن كرونوس _

يا سيد القوى و النور

جئت على رأس أرواحك

سر إلى « دكة » للعالم و افرح بالرقص و الغناء

و نغني و نحن واقفون عند مذبحك الحصين » [24].. و لقد ظهرت هذه الرؤية الجمالية في كثير من القصائد الشعرية الحديثة و المعاصرة التي وظفت الأساطير و الرموز التاريخية. و أشير إلى نموذج آخر وظف الرمز التاريخي، و هو المقطع الآتي من قصيدة « الخروج الأخير لرأس الحسين بن فاطمة » للشاعر المعاصر ابراهيم عباس ياسين، مستفيدا من قول الحسين بن علي: « إني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و إنما خرجت في طلب الإصلاح في أمة جدي ». تقول القصيدة:

و أمضي، في دروب التيه أمضي كانت الصحراء

كتابا من جنون الشمس مشتعلا، و كان الماء ..

يراودني على ظمأ، و في الأعماق كنت أحس قلبي بلقعا قفرا

تعاودني رسائلهم ..

فيورق في انكسار القلب زهر وعودهم جمرا



و ماذا بعد ؟ أدري أنني وحدي،

و آل البيت و الأنصار

نعود اليوم في صمت الزمان الرخو

رهن خديعة الأشرار

كأني الآن - ينبئني حديث القلب - مقتول

و تشهد هذه الكثبان

و أوصالي مقطعة تناهبها عصائب من طيور الليل و الغربان

تدوس الخيل فوق وجوه أصحابي

و تسكت جوعها الذؤبان

و يفني عمره التاريخ في الثارات و الغارات ..

تنهبه أيادي الحقد ».».( [25]. إلا أن أهم قضية يجب مراعاتها حينما يتعامل الشاعر مع الفكر الأسطوري - أو ربما الأدب بجميع أجناسه - هي قضية الرؤية و الموقف بالنسبة للزمان و المكان، ذلك أن خلود الأساطير و قدرتها على أن تشكل موقفا رؤيويا و جماليا هي في قدرتها على تغييب الزمان و المكان و إلغائهما، بحيث يبدو زمان الأسطورة هو كل الأزمنة، و مكانها كل الأمكنة، إنه زمان يصعب تحديده، وهو متنام و شمولي، و مكان أهم سماته أنه لا يتحدد بمواصفات المكان، فهو خارج عن سمات المكان و ملامحه، إنه مكان يجمع فضاءات كل الأمكنة التاريخية، يمتد و يتسع بدوره ليشمل أزمنة لا محدودة من الماضي و الحاضر و المستقبل و المتخيل، و المرئي، و اللامرئي. فالذات الشاعرة « التي تمر بسلسلة التحولات، و تستقطب عناصر كونية و مكانية، كما تستقطب الزمن بأبعاده الفعلية و المجازية و الأسطورية تخضع هذا كله للتشكيل و إعادة التشكيل، على نحو يؤدي إلى أن يكون المكان الزماني في القصيدة بناء فنيا موازيا و معادلا ليس للمكان الضائع وحده و إنما للكون » [26]. .

إن ما يكسب الفكر الأسطوري سمته على الخلود قدرته على أن يلغي التحديد الزماني و المكاني، أي تحديدا قدرته على أن يشكل بعدا دالا إنسانيا. و هذه الدلالة الإنسانية إنما تنفلت عن بنية الزمان و المكان لتصبح حضورا دائما، ف « الأسطورة نتاج جماعي. و نحن لا نعرف لأي أسطورة مؤلفا واحدا. ذلك أن وراء كل أسطورة رؤية شعب كامل، حاول أن يدرك المجهول و يفسره ليصل إلى القوانين الكلية التي تدير الكون، و يمسك بالحقيقة لحظة انبثاقها و توهجها. معنى هذا أنها ليست نشاطا عقليا بل هي نبوءة، نبوءة الإنسان الأول. غير أن النبوءة لا تتحقق كرسالة تمارس فعلها في التاريخ إلا متى أفلتت من شرط الزمن، عندها فقط لا يدركها البلى، و هذا ما حققته الأساطير و ما تصبو إليه القصيدة الجديدة» [27]

و يستفيد الشاعر المصري أمل دنقل، من المغزى الأسطوري لدلالات المكان القديم « إرم ذات العماد » و يحوره و يسقطه على الواقع المعاصر، إذ يوظفه ليصبح مكانا متناميا و شموليا يضم الفضاءات العربية المهزومة و الضائعة، و المستكينة سكونا يصل حد الموت،و الغارقة بالطنين و الخواء، يقول في قصيدته « الهجرة إلى الداخل »، من ديوانه « تعليق على ما حدث »:

« أصيح: يا بساط البلد المهزوم ..

لا تنسحب من تحت أقدامي .. فتسقط الأشياء ..

من رفها الساكن في خزانة التاريخ،

تسقط المسميات و الأسماء !

أصرخ .. ليس يصل الصوت

أصرخ .. لا يجيب إلا عرق التربة و السكون و الموت

و يستدير حول رأسي الطنين،

و يدوم الهواء

أسقط واقفا .. و خائفا



أبكي إلى أن يستدير الدمع في الحفرة

أبكي .. إلى أن تهدأ الثورة

أبكي إلى أن ترسخ الحروف في ذاكرة التراب

أعود ضالا ..

أتبع الأسلاك، و الدم الركام،

و الدم المنساب

أبحث عن مدينتي التي هجرتها

فلا أراها !

أبحث عن مدينتي: يا إرم العماد يا إرم العماد

يا بلد الأوغاد و الأمجاد

ردي إلي: صفحة الكتاب و قدح القهوة .. و اضطجاعتي الحميمة

فيرجع الصدى .. كأنه أسطوانة قديمة:

يا إرم العماد يا إرم العماد »( [28] ) . والسؤال الذي يمكن طرحه في هذه الدراسة: كيف يفسر الشعراء و النقاد استخدام الأسطورة و التراث في الشعر و الفن ؟. و نجيب على هذا السؤال من خلال آراء الشعراء و النقاد أنفسهم.

يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي [29]: « لقد حاولت أن أوفق بين ما يموت، و ما لا يموت، بين المتناهي واللا متناهي، بين الحاضر و تجاوز الحاضر، و تطلب هذا مني معاناة طويلة في البحث عن الأقنعة الفنية، و لقد وجدت هذه الأقنعة في التاريخ و الرمز و الأسطورة».

إذا كان شاعر مرموق من شعراء العربية كعبد الوهاب البياتي يرى في استخدام الأسطورة مظهرا إيجابيا، لأنها دفعته لأن يكتشف الأقنعة الفنية، باتكائه على التاريخ و الرمز و الأسطورة، فإن باحثا و ناقدا معروفا، و هو ارنست فيشر، يرى أن استخدامها بخاصة في المجتمعات البرجوازية ما هو إلا دليل يتمظهر في السلبية و العجز عن إيجاد لغة مشتركة بين الذات و العالم، بين الوعي الفردي و الوعي الجمعي، و ذلك نتيجة شعور الفرد بالغربة و الاستلاب Alienation، فلجوء الأديب إلى الغموض و التعمية و الأساطير هو نتيجة لشعوره بالغربة و التشيؤ، و يبدو اللجوء إلى الأسطورة مظهرا سلبيا، أو تعبيرا عن حياد مفتعل، أو عجزا عن المشاركة في إيجاد حلول لمشكلات الإنسانية التي فرزها النظام البورجوازي، يقول بهذا الصدد: « إن هذا الاتجاه هو قبل كل شيء نتيجة الاستلاب، فالعالم البورجوازي المصنع و المشيأ، قد أصبح جد غريب بالنسبة لسكانه (…) إن نزعة التعمية و فبركة الأساطير تخلق وسيلة لتجنب كل قرار اجتماعي و تجد تبريرا لذلك» [30].

لا يمكننا أن ننكر دور الأساطير باعتبارها مظهرا ثقافيا و إنسانيا قادرا على مساعدتنا لاكتشاف ذواتنا، و ذوات الآخرين، و بوساطتهاا يمكن إلقاء مزيد من الضوء على الحضارات القديمة، باعتبارها أي الأسطورة تمثل قاعدة للدرس الأنثروبولوجي، و الأثنوجرافي، فلقد قدمت فوائد جلة للمهتمين بأنثروبولوجيا الشعوب، و « ليس بكثير أن تكون إذن الأسطورة هي الصياغة الأولى للتاريخ و الجغرافيا و الاجتماع. و حق من هنا لاسترابون أن يقول عن هوميروس إنه لم يختلق عندما تحدث عن أبطاله و بيئاتهم» [31].

و بقدر ما نكتشف في الأسطورة جوهرها الحي و الإنساني و قيمتها الدلالية، بقدر ما تساعدنا على تكوين الحس الاجتماعي و التاريخي، و تدفعنا لاتخاذ مواقف تجاه المشكلات الاجتماعية الخانقة التي نعايشها في عالم الاستلاب و السلعة.

و تعد الأسطورة في مسرح « برتولد بريخت » أداة لتحفيز الفرد لأن يتخذ موقفا في مواجهة مشكلات الواقع، و من ثم يتخطاها و يخلق بديلا إنسانيا منها، يقول بريخت [32]:

« إن مسرحنا يجب أن ينمي رعشة الفهم و أن يدرب الناس على متعة تغيير الواقع. فلا يكفي جمهورنا أن يعرف كيف تحرر بروميثيوس فقط، بل عليه أن يتدرب على اللذة في تحريره، يجب علينا في مسرحنا أن نعلمه كيف يشعر بكل الفرحة و الغبطة اللتين يشعر بهما المخترع و المكتشف، و بكل النصر الذي يشعر به المحرر ». و الأسطورة عند صلاح عبد الصبور يجب أن تتخطى البعد الظاهري لها، لتصل إلى بعد ذي رؤية إنسانية جوهرية، حيث تستمد هذه الرؤية مكوناتها من المادة التاريخية، و بكل ما تحمله هذه المادة من إمكانيات إنسانية، يقول [33] : « و قد تكشف لشعرائنا العرب عالم الأساطير الغني إثر قراءة بعضهم لنماذج من الشعر الأوروبي الحديث. فدأبوا على محاكاتها و في ظني أن هذا المنهج ناقص. إذ أن الدافع إلى استعمال الأسطورة في الشعر ليس هو مجرد معرفتها، و لكنه محاولة إعطاء القصيدة عمقا أكثر من عمقها الظاهر، و نقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري. أو هو بالأحرى حفر القصيدة في التاريخ، و بهذا المعنى فمن حقنا أن لا نستعمل الأسطورة فحسب، بل كل المادة التاريخية المتاحة لنا، من أساطير و قصص دينية و شعبية، و أحداث حقيقية مؤثرة في حياة الإنسان. و قصر القضية عندئذ على الأسطورة قصر تعسفي، يغفل الغاية، و يهتم بالظواهر الساذجة ».

و يرى صلاح عبد الصبور [34]: « أن الحاجة إلى استعمال الأساطير قد نبعت بتأثير النزعة الجديدة إلى تجلية علوم الإنسان كعلوم الانتروبولوجيا و الاثنولوجيا و النفس، فقد كان العلم يرى في هذه الاهتمامات حتى عهد قريب مجموعة من المواد المبعثرة لا تستطيع أن ترقى إلى مستوى العلم. فما شأن العلم بالسحر أو بعادات القبائل المتخلفة أو بطقوس الأديان البدائية أو بغيرها من مخلفات الإنسانية المضطربة في صورها و معانيها ؟ . و لكن البحث حين اتجه إلى الإنسان رأى في هذه المواد المبعثرة كنوزا من التجربة و المعرفة، فحاول أن ينسقها في علوم استدلالية، محاولا أن يعرف الإنسان عن طريقها، بعد أن فشل في معرفة الإنسان عن طريق العلوم التجريبية الحديثة. ».

أما الشاعر بدر شاكر السياب فيفسر استخدام الشاعر الحديث للأسطورة بانعدام القيم الشعرية في حياتنا المعاصرة، لغلبة المادة على الروح، يقول [35]: « لم تكن الحاجة إلى الرمز، إلى الأسطورة، أمس مما هي اليوم، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية، و الكلمة العليا فيه للمادة لا للروح. و راحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها، أن يحولها إلى جزء من نفسه، تتحطم واحدا فواحدا، و تنسحب إلى هامش الحياة. إذن فالتعبير المباشر عن اللا شعر، لن يكون شعرا، فماذا يفعل الشاعر إذن ؟ عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات، التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءا من هذا العالم، عاد إليها ليستعملها رموزا، و ليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب و الحديد، كما أنه راح من جهة أخرى، يخلق له أساطير جديدة، و إن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن».

و يستخدم الشاعر سعدي يوسف القيم الفنية التراثية استخداما جديدا مرتبطا بالعصر، يقول في رسالة كتبها عام 1978 إلى الشاعر عبد الوهاب البياتي( [36]):


أنسي الحاج أنسي الحاج « أعتبر التراث، الجذر الذي نحرص على عدم انقطاعه. لكن نظرتي إلى التراث لا تنفصل عن موقف نقدي. كانت علاقتي مع ديوان الشعر العربي علاقة دهشة دائمة. و من هذه الدهشة التقطت الكثير من قاموسي الشعري. و اليوم أحتفظ بشيء من تلك الدهشة الأولى، إلا أنني أجدني في كثير من الأحيان مراقبا أكثر مني معجبا. أنا أستعمل قيما فنية تراثية استعمالا جديدا مرتبطا بالعصر. فالتضاد الشكلي الذي يتضح في « المطابقة » يمكن أن يتطور إلى تضاد « جدلي ». كما أن عنصر التشبيه التمثيلي يمكن أن يتطور بالصورة. و عنصر الإيقاع يمكن أن يكون جزءا من هارموني حديثة. (إن) أهمية القصيدة أن تنجح في تخليد لحظة إنسانية، أو موقف إنساني، أو صورة إنسانية. ثم نهب هذه اللحظة، أو الموقف أو الصورة صفة الشمول».

ويدعو الشاعر أنسي الحاج [37] إلى قطيعة مع التراث و الماضي، و يسمي عودة الشاعر المعاصر إلى الماضي بالجاهلية المعاصرة في الشعر، يقول: « الجاهلية المعاصرة في الشعر، هي مثول الشاعر، إحساسا و تعبيرا في الماضي، و هذا المثول لا ينفك يتواصل عبر شعراء اليوم، و كأن شيئا لم يحدث في العالم و في عالمهم و في إنسانيتهم. يمكننا أن نسميه منتهى الإفلاس و لكن الأصوب أن نسميه منتهى الولاء إذ يبدو أنه من صميم المبادئ الجاهلية ذلك الانشداد إلى الخلف، ذلك الانشداد البطولي حقا ». و يرفض أن يكون للشعر العربي المعاصر أية علاقة مع العصور الشعرية التي سبقته: « لا علاقة لنا بالشعر الجاهلي - الأموي - العباسي، الرجعي المعاصر، … لأننا شاهدو حياة مختلفة مستقلة، تطلب شعرا عربيا من نوع آخر » [38]

أما الشاعر عبد العزيز المقالح [39]، فإنه يفسر استخدامه للرمز الأسطوري في أحد دواوينه الشعرية، بأنه تجسيد لظاهرة الحزن التي هي خبز الإنسان اليومي في طفولته و صباه و شبابه. يقول: « أما في الديوان الثالث، « رسالة إلى سيف بن ذي يزن » فقد بدا لي الشعر و كأنه صوت الحزن النابت في ضلوع البشر، فكانت قصائده صدى لذلك الصوت الغائر في الأعماق، و الصلاة اليومية التي نؤديها في بيوتنا فرادى و جماعات، و الوجبة التي لا تنقطع و لا تتأخر (و من خلال سيف بن ذي يزن) الرمز و القناع قدمت في هذا الديوان أطيافا من حزن جيلنا، فالحزن كان طفولتنا و صبانا و شبابنا و ما يزال ».

و يعلل الشاعر أمل دنقل [40] استخدامه للرمز التراثي، في مرحلته الشعرية الثالثة باكتشافه لظاهرة الاعتقال السياسي. يقول: « المرحلة الثالثة كانت بحضوري للقاهرة من سنة 1961 - 1960 حين اكتشفت أن هناك شيئا اسمه الاعتقال السياسي، و أن الكتاب و الشعراء ممكن أن يدخلوا السجون. و لم يكن ممكنا التعبير عن هذه الصدمة بالمباشرة التي كنت أكتب بها عن الظواهر الاجتماعية الأخرى. من هنا اهتديت إلى ضرورة الرمز». هذا و قد كانت بدايات تجربته الشعرية الأولى مع الرموز الفرعونية، و لكنه سيتخلى عنها في ما بعد، لأن استيعابها ينحصر في دائرة المثقفين. يقول( [41]): « إنني اتجهت أول ما اتجهت إلى الرموز الفرعونية، فاستخدمت اخناتون كثائر، و كهنة آمون كممثلين للسلفية، كما لجأت أيضا إلى القصص الفرعونية القديمة في قصة الأخوين، و قصة سنوحي. لكنني أحسست أن هذه الرموز لا يمكن إيصالها إلا في دوائر المثقفين فقط. و من هنا بدأ نوع من القطيعة بيني و بين الرمز».

و في مرحلة تالية يهتدي الشاعر أمل دنقل إلى الرموز العربية، باعتبارها طريقا حقيقيا لاكتشاف الذات: « إنني اهتديت إلى استخدام الرموز العربية، و لم أكن سباقا في هذا المجال، لكنني ارتأيت أن هذا هو الطريق الحقيقي لاكتشاف الذات، و التواصل مع الآخرين »( [42].) .


جلجامش جلجامش ويرى الشاعر بلند الحيدري [43] أن الرموز التراثية الإنسانية هي أدواته الفنية في التعبير المعاصر، و أن التراث يرسخ قويا في تجربته الشعرية، يقول عن هذه الرموز: « هذه إحدى أدواتي الفنية في التعبير المعاصر، و بمحاولة لقلب المفهوم المألوف، فإذا كانت عبارة « العدل أساس الملك » بمثابة مفهوم اجتماعي سائد، في الشعار فقط، فإني أعكس هذا الشعار، بأن أجعل الملك أساس العدل، بمفهوم أن القوي يخلق قوانينه (…) أنا أؤمن بأن التراث جزء مني، و ليس شيئا طارئا علي. فكل ما بقي من التراث بقي بقوة ما يمكن أن ينمو و يتكامل مع التطور. فزمن المتنبي هو زمن كل العصور. (…) فالتراث هو أنا، بدمي، بطبيعتي، بانفعالي، بحساسيتي أمام الإيقاع الحياتي، و لا يمكن أن أنسلخ من هذا التراث الموجود في أصلا. و لكني رأيت أن التجربة الشعرية الناجحة لا بد أن تقوم على ثلاثية أساسية، لا غنى لواحدة عن الأخريين، وهي: التراث، و المعاصرة، و الواقع المحلي. و لا يمكن لأي عمل إبداعي أن يحقق وجوده إلا بهذه الثلاثية .».

و يفسر أحد الباحثين المعاصرين استخدام الخطاب الشعري المعاصر للأسطورة بأنه تعبير عن رفض قوانين المجتمع بما فيها من قهر تمهيدا لتشكيل صياغة جديدة لهذا المجتمع بقوله: « إن استخدام الشاعر المعاصر للأساطير يهدف إلى تحقيق غايات عديدة، إذ يطمح فيها إلى تحقيق ذاتيته المكبوتة، و إلى التصريح بتبرمه في أخطر القضايا و تقديم البديل لعالم اليوم المتناقض، و إلى رفض قوانين القهر و الصراع و كشف ما يخفيه في نفسه من انكسارات حضارية راهنة، مستعينا في ذلك كله بالرموز الفنية التي تجعل التجربة الشعرية حية، تؤثر في المتلقي فتخرجه من قهر قناعاته إلى تأمل جديد، يحاول مع الشاعر إعادة تشكيل العالم الأفضل »( [44]. ).
و يعتقد الناقد غالي شكري( [45]): « أن حركة الشعر الحديث في استخدامها الأسطورة كانت تعبيرا حضاريا شاملا عن الاحتياجات الروحية و الجمالية العميقة الجذور في النفس العربية المعاصرة، و هي محاولة قد تأثرت بلا ريب بجهود شعراء الغرب، و لكنها لم تتوقف قط عند أعتابهم. بل أدركت أن التكوين التاريخي للإنسان العربي أكثر استعدادا لاجترار تراثه الأسطوري الذي سبقنا الغرب إلى الإفادة منه ».

إن التكوين التاريخي للإنسان العربي على مر العصور و الأجيال سواء على المستوى الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي، أم النفسي، و الفكري، هو تكوين قمعي و استلابي، و قد ظل هذا الإنسان طيلة هذه العصور يبحث عن نجمة مضيئة و أفق مشرق، و عندما كان يخيل إليه أنه وجد هذه النجمة في رموز الثورات الوطنية و التحررية فإنه سرعان ما فجع بهذه الرموز عندما اكتشف أنها سلبته أمانيه، و لم تقدم له شيئا، إلا مزيدا من الفقر و الاستلاب و البطالة و الشعارات الزائفة التي ظلت ترددها حتى وصلت إلى مقاليد الحكم، و عندما وصلت تحولت هذه الشعارات إلى فقاعات جوفاء، تردد في كل حين، فتغرب المواطن عن هذه الرموز و أصابته جميع صنوف الخيبة و الإحباط، و أمام ذلك لجأ إلى الحلم و التخيل، لجأ إلى إعادة تشكيل العالم، تشكيلا رمزيا و جماليا، ينهل من التاريخ و الأسطورة و من كل الرموز الوطنية و الإنسانية التي ظلت تحتفظ بنقائها الثوري و الإنساني طيلة هذه العصور.

ويرى د.أحمد عثمان [46] أن الشعراء المعاصرين يلجؤون إلى استخدام الأسطورة لأنها مكمن للصور الشعرية، فيقول: « و في الأسطورة أيضا تكمن صور شعرية موسومة بآلاف الخبرات. و بكل الألوان و الاتجاهات، لأنها من صنع الناس، و لأن كل عصر يضيف إليها شيئا يتواءم مع تفكيره و حسه ».

و يلخص د.أنس داود [47] الغاية من استخدام الرموز الأسطورية، في القصيدة الشعرية بما يلي:

1 ما وجده شعراؤنا من حاجة الشعر العربي إلى الخروج عن دائرة الغنائية الذاتية التي عاش فيها في إنتاج الشعراء الرومانتيكيين من المهجر و أبوللو، و الدخول به إلى دائرة الأعمال الموضوعية التي لها وجودها المستقل، نشدانا لتحقيق ما دعا إليه اليوت من إيجاد معادل موضوعي للمشاعر و الأفكار.

2 الخروج من دائرة التلقي للعالم، و الانفعال به إلى دائرة النظر فيه و تعقله.

3 تحقيق الإحساس بوحدة الوجود الإنساني حيث يجدون في الأساطير الماضية تعبيرا عن الحاضر المعاش .

4 الاقتصاد في لغة الشعر .. بتركيز التعبير و تكثيف الدلالة.

5 التعبير عن بعض المضامين بصورة غيرية حتى لا تثير السلطات السياسية والاجتماعية.

بالإضافة إلى ذلك يمكن القول إن الأسطورة هي رؤية جمالية، تعتمد على الصورة الشعرية التي تحاول رصد التاريخ و الرمز الأسطوري في تشعب دلالاته، و من ثم هي صياغة بديل جديد لتاريخ جديد، مهمته أن يتباين مع وضع تاريخي سابق ليتجاوزه و يدل عليه في آن.

و قبل أن تكون الأسطورة اقتصادا في لغة الشعر، فإنها بنية مضمونية مكثفة الدلالة، و ما يعطي الأسطورة قدرتها على الاقتصاد اللغوي الفنيات الجمالية التي توظف بها، بالإضافة إلى طاقاتها الرمزية و قدرتها على تجاوز السياق التاريخي ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wwpr.forummaroc.net
Admin
المدير العام
المدير العام



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 4797
نقاط : 8690
السٌّمعَة : 481
تاريخ التسجيل : 09/12/2011
الموقع : https://wwpr.forummaroc.net/

الأوسمة
 :

توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر   توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر Emptyالأربعاء أكتوبر 17, 2012 7:28 pm

إضاءة نقدية حول توظيف الأسطورة


س1- عرّف الأسطورة.
الأسطورة: حكاية تروي أحداثاً خيالية وقعت منذ زمن بعيد.
س2- لماذا يستخدم الإنسان الأسطورة؟
1- لتفسير الحياة ومظاهر الطبيعة المختلفة. 2- ترسيخ عادات اجتماعية.
3- تصوير بطولة. 4- يغلب عليها الأحداث الخيالية التي وصفها الله بـ" الأباطيل"

س3- ما الأسباب التي ساعدت على توظيف الأسطورة في الشعر الحر ؟
1- ترجمة جبرا إبراهيم جبرا أسطورة "أودنيس أ و تموز" سنة 1957 م فوجد فيها السيّاب ضالته المنشودة للتعبير عن مشكلاته الذاتية ومشكلات عصره.
2- جاذبية الأسطورة لأنها تصل بين الإنسان والطبيعة، وتعين على معرفة حركة التطور في الحياة الإنسانية.
3- تأثر الشعراء بقصيدة " ت.س. إليوت" "الأرض الخراب" لأنها تثير الإحساس بمأساة العصر، وذلك لتوظيف أساطير "أودنيس و أوزيريس" .
س4- هل اكتفى شعراء التفعيلة بتوظيف الأساطير في شعرهم؟
لم يكتفِ شعراء مدرسة التفعيلة بتوظيف الأسطورة فحسب ، بل أعادوا صياغتها للتعبير عن واقعهم الوطني أو القومي، أو الإنساني.

س5- أذكر أسماء بعض الأساطير اليونانية والشرقية والعربية، ووضِّح دلالاتها.
1- سيزيف " يونانية" حُكم عليه برفع صخرة هائلة الحجم إلى قمة جبل عالٍ، شديد الانحدار، ودلالتها ترمز إلى العذاب والإدارة التي لا تعرف اليأس.
2- تموز وعشتار" شرقية" ودلالاتها ترمز إلى الخصب وتجدد الطبيعة.
3- العنقاء أو الفينيق" عربية" طائر خرافي يعيش خمسمائة سنة، وعندما يقترب موته ، يحضر محرقته ويحرق نفسه ليولد من رماده مرة أخرى، ودلالاتها ترمز إلى التجدد والنهوض من الموت.
4- زرقاء اليمامة " عربية" فتاة عربية رأت جيش الأعداء على بعد مسيرة ثلاثة أيام، فحذَّرتْ قبيلتها ، لكنهم كذَّبوها حتى داهمهم جيش الأعداء بالسيف، ودلالاتها ترمز إلى اكتشاف الخطر قبل وقوعه، وبعد النظر.

وظّف الشعراء هذه الأساطير جميعها ، ومنها أسطورة عشتار التي وظفها السيّاب في قصيدته " ليلة في باريس"حيث يربط فيها بين حبيبته العراقية وعشتار، للتعبير عن عواطفه الذاتية، فيقول:
تأتين أنت من العراق
أمدُّ من قلبي طريقهْ
فامشي عليه، كأنما هبطتْ عليه من السماءْ
عَشتارُ، فانفجرَ الربيعُ لها وَبرْعَمتِ الغصونْ
توتٌ ودِفْلى والنَّخيل وبطلْعِهِ عَبق الهواء
وهو الأصيل وتلك دجلةُ
والنَّواتي الخِفافُ يرددونْ:
يا ليتني نجمُ الصَّباحْ
تعبر هذه الأسطورة عن رؤيا الشاعر في لحظات الضعف البشري، حيث كان يعاني من مرض عضال أثناء وجوده في الغربة ، لذلك يبرز صوته موجها إلى حبيبته العراقية، التي تتجسد في صورة "عشتار" لتبث فيه الحياة والحركة كما تبثهما في مظاهر الطبيعة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wwpr.forummaroc.net
Admin
المدير العام
المدير العام



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 4797
نقاط : 8690
السٌّمعَة : 481
تاريخ التسجيل : 09/12/2011
الموقع : https://wwpr.forummaroc.net/

الأوسمة
 :

توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر   توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر Emptyالأربعاء أكتوبر 17, 2012 7:30 pm

تمهيد
في البحث عن مصطلح نقدي للأسطورة :

يمكن القول بأن الأسطورة هي الجزء الناطق من الشعائر البدائية ،الذي نماه الخيال الانساني واستخدمته الآداب العالمية،فهي تلك المادة التراثية التي صيغت في عصور الانسانية الأولى، وعبر بها الإنسان في تلك الظروف الخاصة عن فكره ومشاعره تجاه الوجود، فاختلط فيها الواقع بالخيال وامتزجت معطيات بالحواس والفكر واللاشعور، واتحد فيها الزمان، كما اتحد فيها المكان، واتحدت أنواع الموجودات من إنسان وحيوان ونبات والتحمت في كل متفاعل مع مشاهد الطبيعة وقوى ما وراء الطبيعة ، واتخذت من التجسيد الفني وهو لغة الشعر الحق_وسيلتها للتعبير عن كل خلجة من شعور وكل خاطرة من فكر في تلقائية عذبة محببة تنطوي على إيمان عميق بأنها تعبر عن ((حقيقة الوجود)).

الفصل الأول (الأسطورة والشعر):
_ الأسطورة والشعر :
يتأثر الشعر في نسيجه الداخلي وهيكله العام ، ومواقفه وأحداثه وأبطاله ، في الأساطير، فهناك جذر مشترك بين الحكايات الشعبية والخرافية وحكايات الخوارق والأساطير ، وهو أن جميعها نبعت من خيال خصب يتجاوز الواقع ، ويتخطى حدود الزمان والمكان ، ويمزج بين الأحلام والأوهام وبين ما يحس ويرى ويسمع، وبين الذات وتجاربها الموروثة والمعاشة ، وهذا الخيال الخصب هو الذي أبدع الأسطورة ، وأبدع كل تلك الأشكال التراثية التي تكاد أن تكون عالمية، وهو الذي يعود إليه الشاعر المعاصر فيلتقي بعالمه من خلال الرموز والحكايات في هذا التراث الانساني الضخم، أو يصنع ذلك الخيال بخلق رموزه ودلالاته؛ ليكون رؤيته للعالم .
وحسبنا أن نشير إلى بعض الآراء في تفسير الأسطورة :
أولًا: الوجهة التاريخية :
ترى المدرسة التاريخية أن الأساطير التي وصلت إلينا ليست في أصولها إلا تاريخ البشرية الأولى ، الذي نسيت ملامحه الدقيقة، وأضفى الخيال الإنساني عليه جوا فضفاضا.
وتاريخ الآلهة ما هو إلا تأريخ لعصر الأبطال ، حين كان الإنسان يعجب بالقوة ، والجبروت ، والبطولة في شتى ألوانها المادية والمعنوية ، ويسير في ركب هذه النظرية العالم الأثري (إيمانويل فليكوفسكى) في كتابه _أوديب وأخناتون.



ثانيًا: الوجهة النفسية :
يصدر فرويد في تفسيره للأساطير عن فكرته الأولى ، في أن غرائز الجنس هي أهم بواعث الأعمال الإنسانية ، وأهم ما أصابت به الحياة الاجتماعية الإنسان من عقد ،كان عقدة أوديب_وقد استعارها فرويد من الأسطورة المشهورة _وهي تنطوي على المصادمة الاجتماعية (الكبح) للحب الغريزي بين الابن وأمه.

أما كارل يونغ فيصدر في نظريته عن العقل الجمعي والنماذج العليا، وهي حسب تعريفه (صور ابتدائية لا شعورية، أو رواسب نفسية لتجارب ابتدائية لا شعورية لا تحصى ، شارك فيها الأسلاف في عصور بدائية ، وقد ورثت في أنسجة الدماغ بطريقة ما) إذن هي نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية .

ويعتقد رانك أن الأساطير تصور كفاحا بين الذات الفردية المؤمنة بخلودها ، وبين الذات السلالية المجسدة في الأيديولوجية الجنسية التي تنبذ الخلود الفردي في سبيل الزواج والأولاد .
لقد أثرت آراء فرويد ويونغ على الأخص في الاتجاهات الأدبية المعاصرة ، واعتبرت الأسطورة عملا فنيًا رمزيا، يستطيع أن يتكىء الفنان المعاصر على دلالاتها الخصبة في التعبير عن القيم وعن المشاعر الإنسانية الأصيلة والمتطورة على السواء.
ثالثًا : الوجهة التعبيرية :
يرى بعض الباحثين أن الأساطير ليست إلا لونا من ألوان التصوير البياني لإحساس الإنسان بقوى الطبيعة، يستخدم المجاز الذي نسي أصله كما تعبر عن الزمن ، فينسى هذا الأصل المجازي وتبقى الأسطورة .
فالأسطورة على حد تعبير ماكس مولر إنما نشأت نتيجة قصور في اللغة ، مما أدى إلى أن تكون للشيء الواحد أسماء متعددة ، كما أن الاسم الواحد كثيرًا ما يطلق على أشياء مختلفة .
رابعًا: الوجهة العقائدية:
تؤكد هذه الوجهة أن الأساطير تعبير عن عقائد الأولين وعباداتهم ، ومن الطبيعي أن توهمهم الآلهة في كل مظاهر الطبيعة وفي كل قوى الكون.
وفي إلياذة هوميروس نماذج كثيرة لصلواتهم وألوان متعددة من تقربهم إلى الآلهة ، وضروب احتفالاتهم الدينية .
و التشابه بين كثير من عناصر الأساطير هو نتيجة طبيعية لتشابه المرحلة التاريخية والمكونات البيئية ، حيث لا يوجد التمايز والخصائص المتفردة إلا مع التقدم الحضاري .
ويرى توماس بوليفتش في كتابه"ميثولوجية اليونان وروما" أن تلك الآراء تتبلور في نظريات أربع :دينية وتاريخية ورمزية وطبيعية .

خامسًا: الوجهة الجمالية :
المدرك الجمالي للأسطورة هو أهم ما يعنى به الشاعر ، إذ غالبًا ما يخلد آثارًا قوليةكانت في الذروة من النسق الفني ؛ لذلك كانت خصائص الصياغة الفنية في الأساطير ومنحاها في التصوير والتشكيل أهم ما يسترعي انتباه الشاعر المعاصر .
و نظرة الشاعر المعاصر إلى الأساطير من وجهتها الفنية ، توسع دائرة رؤيته للتراث الانساني ، فتضع التاريخ وأحداثه ، وتضع الكتب المقدسة والحكايات الشعبية المتوارثة و الخيال مصادر لإلهامه.

الفصل الثاني : (سوابق الظاهرة في شعرنا العربي القديم) :

أ_في تراثنا الشعري:
نشأ الشعر العربي كغيره من الشعر في أحضان الأساطير ، وهي جزء هام من النشاط الشعري ، وقد كان هناك حركة تراجع أو لنقل انحطاط لعبادة الأوثان ، ومحاولة للتجمع حول فكرة (التوحيد)، ونبذ تعدد الآلهة، وبالتالي إضعاف شأن الأساطير بهيمنتها السابقة على العامة.
ورغم ذلك فإن ما بين أيدينا من الشعر الجاهلي لا يخلو من إشارات أسطورية قليلة ،إذ نرى الأعشى يتحدث عن سليمان ، وعن جن سليمان ، وعن المباني القديمة العادية المنسوبة إليه ، كما نراه يقص علينا بعض الأساطير القديمة ، والقصص الذي كان شائعا عند الجاهليين مثل عاد وثمود وجاسم ووبار.
وفي شعر أمية ابن أبي الصلت_وكان طامحا إلى النبوة_تقبل واستجابة لحكايات الكتاب المقدس، إذ يصف سفينة نوح، ويذكر إبراهيم ، ويقص عن مريم ، وخراب سدوم ، ونرى للملائكة مكانا في شعره ، وصفهم وتحدث عنهم ، وتطرق إلى مراتبهم ودرجاتهم وإلى أعمالهم .
ويشير النابغة الذبياني في شعره إلى كثير من الأساطير العربية والحكايات التوراتية ،فيشير إلى قصة سليمان والجن .
ونجد لدى شعراء آخرين إشارات إلى أساطير سنمار وصاحب الخضر ،كما ينظم عدي بن زيد العبادي كثيرا من الحكايات المتوارثة على نحو يجعلها جزءًا من التراث الأسطوري العربي كقصة الزباء ، كما يشير زهير بن أبي سلمى إلى قصة قدار عاقر ناقة صالح الذي كان شؤما على قومه .
لقد شف الشعر الجاهلي ،عن مضمونه الأسطوري ، وما ظهر من إشارات أسطورية فيه، نسج الشعراء العرب في العصور التالية على منواله.
فأبو نواس يشير إلى الضحاك بن مرداس، وأشار ابن الرومي إلى العزيز الذي خاصم ربه، وأشار المتنبي إلى زرقاء اليمامة.
ويعتبر أبو تمام وأبو العلاء المعري أكثر شعراء العربية في هذا السبيل ، فأبو العلاء المعري صاحب الأثر الأسطوري الجميل (رسالة الغفران) وفي شعره إحالات إلى الملل والنحل الدينية ، وإلى مختلف الثقافات المعاصرة والسابقة.
إذن يمكن تسمية مرحلة وجود الظاهرة الأسطورية في شعرنا القديم بمرحلة (الإشارة الأسطورية )حيث ينبثق الرمز عن طبقة واحدة معينة من المعنى ويتحرك بمستوى واحد من النفس، نظرا لخفوت تأثيره بنفوسنا و لبعدنا عن الانفعال بالمرحلة الأسطورية وصلتها باللغة الشعرية في تاريخ العرب ، وعدم امتلاكنا للوسائل العلمية التي تحدد تأثير هذه الإشارات الأسطورية في نفسية القارىء القديم .
ويمكن القول أن هذه المرحلة تليت بمرحلتين هما :
مرحلة صياغة الأسطورة: (ممثلة بمدارس البعث والتجديد في النصف الأول من القرن العشرين "مدرسة الإحياء والديوان والمهجر وأبو للو) ، فقد كان شوقي يصوغ حكاياته عن الحيوان ، وكان شفيق معلوف يصوغ الأساطير العربية في عبقر، وكان علي محمود طه يصوغ أرواح وأشباح، والرياح الأربع عن أصول فرعونية وشخصيات يونانية ، وكان إلياس أبو شبكة يصوغ قصص الكتاب المقدس وما اختلط بها من أساطير، وكصياغة العقاد ترجمة شيطان على النسق الأسطوري .
وكانت الأسطورة بين يدي الشاعر في هذه المرحلة تكاد أن يكون لها استقلالها الموضوعي ، وكان الشاعر يصوغ الأسطورة ويتركها بين يدي المتلقي تاركا شخوصها وأحداثها وما تشف عنه رموزها تعطي المتلقي من خلال العمل الفني الذي بين يديه.

مرحلة توظيف الأسطورة في بناء القصيدة( ممثلة بالمدرسة التي بزغت مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وما زالت مستمرة إلى اليوم ، ومن أهم شعراء هذه المرحلة بدر شاكر السياب.
وهنا الشاعر يتغنى ويقدم ذاته للمتلقي ،ويستخدم الرموز الأسطورية كوسائط فنية بينه وبين المتلقي، وهو لا يصوغ أساطير ولكنه يشكل ، ويمتزج معجمه الشعري أحيانا برموز الأساطير وعناصرها ، فتسري الأسطورة في نسيجه الشعري كما تصهر عضويا مع بناء قصيدته.

الفصل الثالث : (مصادر الأسطورة في الشعر العربي المعاصر):

يستقي شعراؤنا المعاصرون الذين يستخدمون الأساطير ، من منابع عديدة تتلخص في :

1_الأساطير : وهي المصدر الأصلي وقد تنوعت روافدها ، فقد لجأ شعراؤنا إلى الأساطير اليونانية والفينيقية والأشورية والبابلية والفرعونية وألم بعضهم بالأساطير الإفريقية والصينية .
وهنا يظهر سؤال هل للحضارة الإنسانية أصل واحد ؟
إن القائلين بأصل الحضارة الواحد يختلفون على أولية وجودها في وادي النيل ومابين النهرين (العراق)، والقائلون بتعدد نشأتها لا يستثنون مصر وبابل وآشور .
غير أن حظوظ هذه الحضارات فيما خلفت من أساطير كانت مختلفة ،إذ توارت أوكادت الأساطير الكبرى للحضارة العربية، ومثلت الأساطير اليونانية فعالية في الآثار الأدبية ، وربما كان ذلك لأن الحضارة اليونانية كانت أحدث هذه الحضارات القديمة جميعا، وآدابها صادفت توفيقا ملحوظا فحفظت لنا الملاحم كالإلياذة والأوديسة لهوميروس،والمسرحيات والقصائد الغنائية، والأبحاث التاريخية والنقدية والفلسفية والتشريعية .
إذن تعددت مصادر الأساطير التي استقى منها شعراؤنا المعاصرون ورغم تعدد الأساطير وتنوعها لدى الأمم فإن عناصرها الأولى تكاد تكون متحدة أو متوافقة، وكثيرا ما نجد التشابه بينها مع اختلاف بعض التفاصيل ، بل نجد هذا التشابه بين الأساطير وما ورد في الكتاب المقدس.
فقصة ميلاد الإنسان من أب إلهي أو أم إلهية قصة متكررة في الأساطير(حتشبسوت،سميراميس،سرجون)، وربما يرجع مثل هذا التشابه حسبما يشير جوستاف لوبون ، وتوينبي إلى أن الأساطير كانت نتاج أمم في أطوار تاريخية متشابهة فتشابهت عناصرها واتحدت أصولها .
إن الثراء المتزايد لعالم الأسطورة _باختلاف مصادرها أو تأويلها _هو السبب في بقاء ينبوعها ثرا بين أيدي الأدباء حتى اليوم، وكل فنان معاصر _يستخدم الإطار العام للأسطورة ، أو يكون صورة من عناصرها ، أو يلتقط شخصية معينة ، أو موقفا كقناع لفكرة أو إحساس_ بحاجة إلى تأمل الدلالات العامة والارتكاز على الإطار الكلي للأسطورة ، أي أنه يطور الأسطورة ويطوعها إلى فن ، ويبث من خلاله مضامين معاصرة .

وقد لفتت أنظار شعرائنا كبرى الأساطير القديمة على الإطلاق وهي الأسطورة التي نجدها مكررة في تراث كل الحضارات القديمة : أسطورة الصراع بين الازدهار والجدب في الطبيعة ، وبين الخير والشر في الإنسان ،أسطورة إيزبس وأوزوريس في مصر القديمة،وعشتروت وأدونيس في فينيقيا،وأفروديت أوفينوس وأدونيس في بلاد اليونان .
وأي من هذه الأساطير صادف أطوارًا من النمو حتى بلغ صورته من الاكتمال على مر الحقب وتطور البيئة والمجتمع.

و كان للبيئة التي نشأت فيها الحضارتان البابلية والمصرية أثر واضح في تشكيل نظرة الإنسان إلى الكون والحياة ، فانتظام النيل في فيضانه أعطى الإنسان في مصر مقياسًا دقيقا للزمن ، وإحساسًا بالأمن وثقة بالمستقبل، وشعورًا بصداقة الآلهة له ، أما دجلة والفرات وعدم انتظام فيضانهما ،ومفاجأتهما بالأعاصير الغاضبة ،أعطى الإنسان إحساسا بعدم الأمن وعدم الثقة بالوجود .
ولذلك نستشعر في الأساطير البابلية والأشورية إيقاع الفزع ، ومحاولة البحث عن الإنسان وقيمته في الوجود ، وقد تجسد هذا الإحساس المفزع بالوجود وذلك التوق إلى الخلود في ملحمة جلجامش ، وتعتبر ملحمة جلجامش _حتى الآن أول تجربة ملحمية في تاريخ الأدب العالمي .
كما تعتبر الإلياذة والأوديسة أعظم أثرين أدبيين في التراث الإنساني ، استوحى فيهما هوميروس أساطير اليونان وتراثهم الحضاري وظلا على مدى التاريخ_مصدر إشعاع للكتاب والمفكرين وما زالا قادرين على الإمتاع والإلهام .
وقد عربها في صورة شعرية (سليمان البستاني).
ويمكن القول أن هوميروس استفاد من التراث المصري ، إذ زار هوميروس مصر ولابد أن زيارته كانت فرصة للبحث والدراسة وتحسس الجوانب المشرقة في هذا التراث الخالد .
2_ الحكايات الشعبية :
اعتمد شعرنا قليلًا على الحكايات الشعبية التي تروى عن عرب ما قبل الإسلام ، كأحاديث جذيمة والأبرش ، وحكايات الزباء ملكة تدمر ، والأقاصيص حول سنمار والأمثال التي ضربت فيه ، ويوما النعمان (يوم نعيمه ويوم بؤسه).
وكل هذه وأمثالها شغلت جزءًا كبيرًا من الأدب العربي القديم ، ولكنها لم تسترع انتباه شعرائنا المعاصرين إلا قليلا أمثال(عبد الرحمن شكري ).
*أما أهم مجموعات الحكايات الشعبية التي أثرت في شعرنا المعاصر فهي:
أ_كليلة ودمنة :وهي مجموعة من قصص الحيوان تدور كلها على ألسنته ،ويحاول مؤلفها أن يعطي العظة والعبرة للإنسان من خلال ما يخترعه خياله من أحداث ومشكلات في عالم الحيوان .
ويذهب بعض الدارسين إلى أن حكايات الحيوان أقدم الحكايات الشعبية على الإطلاق وتوجد في كل بيئة .
ب_ألف ليلة وليلة :عالم خيالي خصب لا يكفي أن نتحدث عنه بل يجب أن نقرأه قراءة دقيقة ؛ لنكتشف وسائط فنية لشعرنا المعاصر ، ورموزًا تعبر عن ضمير عصرنا وتطلعاته ، وهذا هو الطريق الحق لاستلهام التراث ، فنحن لا نريد من شعرائنا أن يفتحوا كتاب ألف ليلة وليلة لينظموا حكاياته وإنما نريد أن يمنحوها روح العصر .

3_التاريخ والكتب المقدسة :
يعالج الشعر التاريخ أحيانًا معالجة أسطورية فلا ينظر إلى البطل أو الأحداث في ضوء الحقائق التاريخية والوثائق المعروفة ، بل تتجاوز الرؤية الفنية للشاعر ذلك الإطار الواقعي وتلك الدلالة المحدودة إلى دائرة خيالية تتحرك فيها الحوادث والأبطال كما تتحرك في عالم الأسطورة لتتيح للشاعر أن يبث من خلال ذلك العالم الأسطوري ما يريده من غايات إنسانية دفينة .
إذن ثمة مسافة بين الحقيقة التاريخية وبين استخدام الفن للشخصية أو للواقعة الفردية ، فالشاعر لا ينظم تاريخا ولكنه يتوسل بالتاريخ للتعبير عن رؤى فنية معاصرة .
فمثلًا ينظر الشعر إلى الكتب المقدسة وإلى ما جاء فيها من قصص ، خاصة ما ازدحمت به التوراة من حكايات مثيرة ، ومافي قصة صلب المسيح من مثيرات فنية ، وما في عصيان ابن نوح لوالده في القرآن من تمرد ودلالة على الاعتداد بالذات ، ومافي موقف الشيطان أمام الذات الإلهية من هذه الدلالة السابقة ، إلى غير وذلك مما لا شأن له بالمقاصد الأصلية لهذه الكتب أو التحقيق التاريخي لبعض أحداثها.
وأهم الأسفار التي استرعت أنظار شعرائنا ، تلك الأسفار التي تكاد أن تكون شعرًا خاصا نذكر منها :المزامير والجامعة ونشيد الإنشاد ، وتعتمد الصورة الشعرية في هذه الأناشيد على موجودات البيئة البدوية من حيوانات وأشجار وأثمار وبخاصة البيئة الفلسطينية .
وكان العهد القديم _وما زال _يلفت نظر شعرائنا .
أما الإنجيل فلم يكن أقل لفتا لشعرائنا من التوراة ، وأعظم ما يزخر به من حكمة وبيان ذي طابع شعري يثوي في (موعظة الجبل) ، وكلمات المسيح عبر الأناجيل مليئة بالوعيد للأغنياء وللعشارين والمرابين والمرائين وبخاصة رجال الدين اليهود، وشخصية المسيح مثيرة للخيال خارقة للعادة يدعونه الرب والإله وهو يغفر الخطايا .

الفصل الرابع : (المؤثرات الأجنبية في استخدام الأسطورة في الشعر العربي المعاصر) :
ترجع المؤثرات الأجنبية في استخدام شعرنا العربي المعاصر للأسطورة في صورتها العامة إلى :
1_تأثير لافونتين في شوقي في حكاياته عن الحيوان .
2_التأثير الرومانتيكي.
3-التأثير الرمزي في سعيد عقل بخاصة .
4_تأثير إليوت في مدرسة الشعر الحر .
ففي أثناء وفادة شوقي إلى فرنسا قرأ لافونتين ، وقد أفاد منه كيف يستطيع أن يخفي أغراضه ويبث مضامينه دون أن يقع تحت طائل السلطة السياسية أو الاجتماعية .
وكان تأثر شوقي بذلك التكامل الفني الرائع لهذا اللون الفني عند لافونتين وفيه تتحقق:
1_وحدة الحكاية .
2_ويقوم كل بدوره المميز الواضح .
3-ويتم التناظر _عن طريق الإيماء البعيد _بين عوالم الحيوان وعالم الإنسان .

وتأثر بعض شعرائنا(شعراء الديوان وأبو لو والمهجر) _ قبل الحرب العالمية الثانية _في اصطناع الإشارات إلى التراث الأسطوري الإغريقي ، وفي صياغة قصائد في موضوعات أسطورية يونانية على نحو ما نجد عند أبي شادي ، وفرعونية على نحو ما نجد عند علي محمود طه، عبرية على نحو مانجد عند شوقي وعزيز أباظة .
و يرجع هذا التأثير المباشر والقوي لشعراء المدرسة الرومانتيكية _والرمزية عند سعيد عقل _واستفادتها من أساطير الإغريق وتضمينها أشعارها كثيرا من الإشارات _إلى أساطير اليونان ثم صياغتها أعمالا شعرية خاصة ببعض الأساطير.
فالأسطورة (أداة لتوصيل الحقيقة التي يكشف عنها الخيال )الذي اعتبره الرومانتكيون الوسيلة الأولى للمعرفة الإنسانية.
أما خليل مطران فكان يتمتع في شعره بميل إلى الموضوعية يكاد أن يكون كلاسيكيًا ، اتجه به إلى إنشاء القصص الاجتماعية ، والتاريخية ، وما سماه ملحمة عن "نيرون" .
وكانت الرمزية مبعث التجاء سعيد عقل إلى الأساطير وكانت مبعث اختياره لبعض مصادره (الأساطير الفينيقية والعبرية) ومبعث تأثير في أعماله الأخرى .
والشاعر الرمزي يستقي تجاربه من الحالات المتوالدة في العقل الباطن ،ومن الأزمات المبهمة في اللاوعي وهو نفس ما دعا إليه سعيد عقل ، وقد جهد الرمزيون في استغلال طاقات اللغة الشعرية ، والرجوع للأساطير انفلاتا من التعبير المباشر ووقوعا على رموز جاهزة استغلتها الآداب القديمة .

أما مدرسة الشعر الحر فقد كان إليوت أكبر مؤثر في اتجاهاتها إلى توظيف الإشارات التاريخية والأسطورية، ومحاولة صهرها في بناء القصيدة ، فكان اللجوء إلى الأساطير لأبعد مدى وأكثر تشعبا حيث استحالت إلى لبنة في البناء الشعري التماسا(لمعادل موضوعي) للفكر والشعور ، وإلى تكثيف دلالات شعورية وفكرية على نحو يحيلها (رموزا ونماذج إنسانية وأقنعة موضوعية للشاعر .
وتعتبر نظريتا (المعادل الموضوعي ) و(الصلة بالتراث) أهم نظريات إليوت النقدية ،و أكثرها تأثيرا فيمن تأثروا به وثمة له آراء في صلة الشاعر باللغة ورسالته الشعرية لقومه.

أما مدرسة المهجر وهي المدرسة التي تكونت من مهاجري سوريا ولبنان إلى الأمريكيتين ، فقد حاولت أن تهز الجمود الشعري وأن تؤسس للإبداع الفني كما تراه شعرا ونقدا .
ويمكن إجمال ما وصلت إليه مدرسة المهجر في استيحاء التراث الأسطوري بالإشارة إلى أهم الأعمال وهي مجموعة عبقر للشاعر شفيق معلوف،وكذلك استفادة الشاعر القروي مما يدعى ولادة (الآب الإله)من مريم في بعض قصائده.


الفصل الخامس : توظيف الأسطورة في بناء القصيدة :
تمهيد :
1_ الشعر والخصائص التعبيرية للأسطورة :
خلف كل لغة شعرية ترقد طبقة من الإشارات والرموز الأسطورية ويترسب قدر من لغة الإنسان الأولى ، بكل ما فيها من تجسيد للأهواء والمشاعر ومن بث الحياة في الأشياء ومن إحساس بوحدة الكون والإنسان ، وحدة تجعله جزءا من الكيان الحي الخالد.
ولعل قصيدة القمر العاشق لعلي محمود طه ، وهي قصيدة غنائية لا تحفل في ظاهرها بأي إشارة أو رمز أسطوري تستمد من الأساطير الأولى تجسيد القمر ومنحه الحياة الإنسانية .
وفي شعرنا المعاصر خواص أسطورية عديدة منها (الجو الأسطوري ) بمباينته للواقع وغرابته غرابة خاصة تذكرنا بأجواء الأساطير ، ومنها الشخصية بما فيها من عناصر خارقة للعادة وقدرتها على تسخير الأشياء وإخضاع قوى العناصر كما تشاء لها الأهواء مثلما نرى في قصيدة علي محمود طه (امرأة وشيطان ) وقصيدة (ميلاد شاعر ) والتي صوّر فيها ميلاد الشاعر كحدث كوني ، تتساءل عنه مظاهر الوجود .
ونجد في شعرنا الحديث ظاهرة تأليه الإنسان، وتأليه الظواهر الطبيعية وتأليه الأشياء المقدسة ، ويكثر الاشتقاق من صفة الألوهية ونعت الأشياء بها كظاهرة من ظواهر التأثر بالشعر الغربي .
ويعمد الشاعر إلى اصطناع جو أسطوري وإلى أن يؤله أشخاصا أو معاني ،كما صنع الهمشري في مطولته (شاطىء الأعراف ) وأحمد زكي أبو شادي في أوبراه (الآلهة).
ويتصل بالتأليه اللغوي للأشياء ، ظاهرة الحديث عن بنات الماء ، وربة الأحلام ، وعرائس الآمال ، وربة الشعر، وإضفاء الحياة على النجوم .
وتشيع في شعرنا الحديث ظاهرة أخرى ، وهي خصائص المعجم الأسطوري ، لا كأسماء أشخاص أو مواقف أو مدن، بل كخصائص وظيفية في تلك الأساطير .
وما يرى في شعر ملك بن عبد العزيز من حديث عن خصب النفس وخصب التربة ، والتعبير عن النزوع من خلال عطش الأرض ، وتوقها إلى قطرات الماء هو من بقايا ذلك المعجم الأسطوري.

2_المدارس الشعرية واستخدام الأسطورة :
إذا استعرضنا القصيدة الشعرية المعاصرة منذ أن انبعثت إلى الحياة حية على يد البارودي ، متخلصة من وهن النسيج وزيف التجربة ، فإننا نلاحظ أن تطعيم النسيج الشعري بالإشارات الأسطورية قد مرّ في مراحل ثلاث :
أ_الإشارة
ب_الرمز
ج_النموذج
أ_الإشارة :
_كان لشوقي ومدرسته مشاركة عامة في تضمين أشعارهم كثيرًا من الإشارات التاريخية والأسطورية التي تشبه مثيلاتها في أشعار _مدارس التجديد.
_أما مدرسة الديوان فيقل حظها من استخدام الإشارات الأسطورية.
_ولدى المجددين من شعراء أبولو نجد الأساطير اليونانية تدخل على حذر كمصدر من مصادر هذه الإشارات.
_و تكثر الإشارات الأسطورية والتاريخية كثرة لافتة للنظر في مدرسة الشعر الحر ، حتى تبيت من أهم ملامح معجمها الشعري ، وتتسع مصادر هذه الإشارات فتصدر عن الآثار الأدبية القديمة والحديثة ، وعن الأساطير المختلفة وتتطور الإشارة إلى كثافة في المعنى واتساع في الدلالة واتخاذ مجرى رمزي في نفوس القراء .
لذا نجدها تقتحم أجواء القصيدة فتشذ عن روحها العام ، وتنبو عن طبيعة نسيجها الشعري ، وتحاول أن تكون استعراضا لثقافة الشاعر أو تأكيدا مفتعلا لعصرية شعره ، وحداثة أدواته الفنية ، فتسقط في دائرة الرفض ،وتنبذ كل مادة زائفة .
مثلما نجد في شعر السياب ،وقد يعمد الشاعر إلى تكثيف الدلالات باستدعاء أكثر من رمز شعري فيجد القارىء حشدا من الإشارات والرموز توهن من القدرة على الإيحاء، كما نجد عند البياتي في قصيدته (مرثية إلى عائشة).

وقد وفق شعرنا المعاصر (مدرسة الشعر الحر )في استحداث بعض الرموز الفنية ،وكانت الغاية من تلك الرموز :
_حاجة الشعر العربي للدخول إلى دائرة الموضوعية التي لها وجودها المستقل ، نشدانا لتحقيق ما دعا إليه إليوت .
_الخروج من دائرة التلقي للعالم والانتقال به إلى دائرة النظر وتعقله.
_تحقيق الإحساس بوحدة الوجود .
_الاقتصاد بلغة الشعر وتكثيف الدلالة .
_التعبير عن بعض المضامين بصورة غيرية حتى لا تثير السلطات السياسية والاجتماعية.

ب_الرمز :
_استقى شعراؤنا من الأساطير اليونانية (سيزيف ، وبروميثيوس ، وأدويسيوس، وبنيلوب ، وأدونيس، وفينوس، وبرسفون) ومن البابلية (تموز ، وعشتروت ) ، ومن العربية (السندباد ، وشهرزاد ، وشهريار، وعنتر، وأيوب ، وقابيل ، وهابيل)، ومن العبرية (المسيح ولعازر ويهوذا) .
_وشكلت الأسطورة عند صلاح عبد الصبور ، والسياب ، وخليل حاوي ، والبياتي ملمحا من أهم ملامح معجمهم الشعري واتجاهاتهم الفكرية ومشكلاتهم االنفسية ، وقد حاول هؤلاء الشعراء أن يكتشفوا في الأساطير (النموذج الأسطوري) الذي يحمل عبء التعبير عن خصيصة من خصائص المجتمع العربي .
وقد كان لكل من هؤلاء الشعراء وجهة نظر في اللجوء إلى استخدام الأسطورة :
*فصلاح عبد الصبور يرى في استخدام الأسطورة محاولة لإعطاء القصيدة عمق أكثر من عمقها الظاهر ، ونقل التجربة من مستواها الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري .
لهذا آثر قناع شخصيتي الملك عجيب بن الخصيب ، وبشر الصوفي، وقصيدة القناع قادته إلى عالم الدراما الشعرية حيث بدأ نتاجه المسرحي باستغلال شخصية الحلاج .
وحاول صلاح إخفاء المادة التاريخية بشكل عام .
*أما بدر شاكر السياب ففسر إقبال الشاعر الحديث على الأسطورة بانعدام القيم الشعرية في حياتنا الحاضرة ؛ لغلبة المادة على الروح، لهذا يلجأ الشاعرإلى عالم آخر يحس فيه بالارتياح.
*وفي مقالة لخليل حاوي (الخلق العضوي في نظرية الشعر ونقده)يتضح أن كلية المبنى الفني وتعبير الرمز عن الانصهار الجزئي والكلي في وحدة يستحيل فكاكها ، خصائص واضحة في فن خليل الشعري، ومفتاح محاولته لاستخدام الرموز الأسطورية.
_ثمة وشائج من الاتصال بين بعض الرموز التي قد تبدو متباعدة في الظاهر لاختلاف مصادرها حينًا، أو لبعد دلالتها داخل إطارها الأسطوري والتاريخي ، لكنها داخل الاستخدا م الشعري المعاصر دارت في مجال تعبيري واحد ،على نحو (أوديسيوس والسندباد ) و(تموز والمسيح ولعازر) .
وفي هذا اكتشاف لعنصر هام في الأساطير الكبرى ، وهو وحدة الوجود الإنساني في جوهره ، رغم تشعث مظاهره، وتناثر جزئياته.
_تتردد بعض الرموز في كثير من الأشعار بمعان متقاربة على نحو ماتردد (يهوذا) في التعبير عن الخيانة والندم، ولم يمنع أن تدور جملة من الرموز في إطار دلالات معينة ذات صلة بالتطور الاجتماعي والحضاري الذي كنا نمر به ،على نحو ما نلاحظ في استخدام (المسيح )كرمز شعري .
*ففي شعر المدارس الشعرية قبل الحرب العالمية الثانية كانت الإشارة إلى شخصية السيد المسيح (طيبة،رحمة ،طهارة،نبل )،
أما في مدرسة الشعر الحر ف (عذابه وصلبه وتضحيته)، وقد كثر الوصف والاشتقاق من صيغة الصليب في مدرسة الشعر الحر، وثمة قصائد مستقلة تدور حول معنى الصلب وتتأمل فيما انبثق عنه من مواقف .
_كان خليل حاوي من أبرز الذين وظفوا الأساطير في الشعر، ففي قصيدته (البحار والدرويش)اتخذ من السندباد علما على تجربته الشعرية ،واعتبر نفسه راحلًا أبديًا في سبيل المعرفة ،وقد حاول عبر هذا الرحيل أن يعثر على اللغة الفطرية البكر.
وفي ديوانه (نهر الرماد ) بدأ بالرحيل من أجل المعرفة والبحث عن ماهية الوجود ، وانتهى بذوبانه في نهر الجوع، والتطلع إلى ازدهار الحياة .
وفي (الناي والريح)ديوانه الثاني واصل الإيمان بالبعث العربي ، وانتهى بمعاينة البعث في بشارته لأمته بأنها ستعود إلى سابق ازدهارها .
أما في ديوانه الأخير (بيادر الجوع )فقد بدا مليئا بالألم الكظيم ،كسير القلب والروح ،وهو يعبر عن مرارة انتظاره وسأمه الانبعاث الذاتي العربي .
وداخل هذا الشعار الكلي لتجربته نثر كثيرا من الرموز الفنية واستخدم كثيرا من الأساطير .
_وتأثرا بإليوت في (الأرض الخراب ) وجد السياب في الإيقاع الأساسي للطبيعة في أساطير الحضارات الزراعية الأولى إيقاع تتابع من الجدب والإزدهار ، موت الخضرة وانبعاثها من قلب التربة الموات ، بما يوثق صلتها بصلب المسيح وقيامته ومافي صلبه من معنى التضحية وفداء الإنسانية لتحيا _بعد ذلك _محررة من نار الخطيئة الأولى .
والبعث في قصائد السياب نزعة أصيلة في نفسه وفنه يتجول فيها نفسيا وفنيا من خلال أسطورة من أساطير الانبعاث الكبرى (أسطورة تموز ) مع تأصلها في فنه _مع صلب المسيح وقيامه وتواصل التعبير عن تموز وعشتار ،أو التعبير بجزء من الأسطورة ، واستحضار دلالتها العامة دون مسميات وبهذا تتعدد وسائل التعبير _بأسطورة تموز عند السياب كما تتعدد روافده في التعبير عن فكرة البعث ، مما يؤكد أصالة فكرة البعث في نفسه.
وأكبر ما يتهدد الشاعر في الاهتداء إلى أسطورة كبرى ،وكثرة التعبير بها أن تتحول إلى صيغة عامة جامدة يفقد _بالتعبير بها دقة تصوير مختلف الزوايا النفسية ، وقد حاول السياب أن يتجنب ما يصيب الأسطورة من جمود ، بتطويعها إلى تجاربه المختلفة ، والاستعانة بمصادر أسطورية أخرى ليخصب رمزيتها وينوع دلالتها .
و السياب أكثر الشعراء ورودا على الأساطير ،وأسطورة تموزتحتل مرحلة خصبة من حياته ، أما ما قبل المرحلة التموزية فقد كان السياب يستعين بمختلف الإشارات الأسطورية دون التركيز على أسطورة معينة مثل ديوانيه الباكرين (أزهار وأساطير )، وقد ارتكزت هذه المرحلة في الأغلب على الأسطورة اليونانية ، مع بعض الإشارات إلى المصادر العربية والإسلامية كقابيل ويأجوج ومأجوج ، وفي المرحلة التموزية صاحبه تفتح على المصادر المسيحية وبخاصة حادثة صلب المسيح ، وإحياء لعازر، وفي المرحلة الأخيرة تتنوع الإشارات الأسطورية مع بعض التركيز على شخصية السندباد، وصنوه عوليس كطرف مضاد لشخصية الشاعر وحياته ، فكلاهما جواب آفاق ولكن أحدهما مغامر ناجح والآخر(الشاعر)مفروض عليه أن يرحل عن الديار وأن يجتاز البحار ، مريضا ينشد العلاج .
وكان أيوب هو الرمز الذي أضافه السياب في ديوانه(المعبد الغريق ) و(منزل الأقنان )، غير أن السياب تخلى عن الإشارات الأسطورية ، واعتمد على الغناء الذاتي ،الذي يفيض بالتعبير عن محنة مرضه وانتظاره للموت وعجزه عن الإبداع الفني.
وحاول السياب في مراحله الأخيرة أن يخصب أدواته الفنية باكتشاف رموز الطفولة ، وعلاقاته بالأم والقرية ، وأعطت هذه الرموز لبض قصائده أبعادا بالإيحاء ، واستطاع أن يعثر على رمز للأمل الهارب _بما يتلاءم مع حالته النفسية في (إرم ذات العماد )ولإرم ذات العماد حديث طويل في الأساطير العربية القديمة _فيما قبل الإسلام .

_أما عبد الوهاب البياتي فمنذ ديوانه الباكر (أباريق مهشمة) حاول أن ينثر الإشارات التاريخية والأسطورية مثل :هولاكو، وهارون الرشيد ،ومامون(إله لما في الأساطير اليونانية )وشهرزاد وسدوم وسيزيف، إلا إنه وقع بجملة من العيوب الفنية أهمها:
1_التصوير الآلي للواقع دون محاولة للانتقاء الفني .
2_الشعارات السياسية التي تمتلىء بها رقعة القصائد .
3_الطابع النثري في كثير من القصائد مثل ديوان( عشرون قصيدة من برلين ).
أما في دواوينه الأخيرة فقد اكتشف أكبر عيوبه:إن شخصيته الحادة هي التي كانت تفرض عليه تلك المباشرة ،وعدم الأناة في إنضاج التجربة النفسية ،وفي إنضاج تصويرها، وبابتعاده عن تلك الشخصية في الدواوين الأخيرة دخل عالم الشعر .
_ونثر صلاح عبد الصبور بعض الإشارات في شعره مع اتجاه واضح إلى تجسيد الحالات النفسية كالحزن والحب، متخذا رموزه من الواقع الإنساني ومن الطبيعة ،أما حين لجأ إلى الرموز الأسطورية فقد سار في اتجاهين :
*التماس قناع من شخصيات التراث .
*الاعتماد على نظير مرئي على سطح القصيدة.
وقد اشتبكت أقنعته ورموزه الأسطورية برمزه الأسطوري السندباد .

ج_النموذج :
كثيرا مانرى روح الإنسان وخصائصه العامة في عصر ما متمثلة في أثر فني ،أبدعته عبقرية على جانب كبير من الوعي بحركة التاريخ ، ومن الإحساس بروح العصر.
ولعل أبرز النزعات في مجتمعنا العربي ،هي محاولة الخروج من قيم الماضي الفكرية والاجتماعية ، ومحاولة تحطيم العزلة التي فرضها علينا الاستعمار والاتصال بالعالم ، والاستفادة من خبراته، ومحاولة سبر الوجود العربي ، والرحلة داخل النفس العربية لاستخراج كنزها الدفين .
وحاول الشعراء أن يحلوا هذه النزعات في نموذج فني مستخرج من التراث الشعبي وهذا النموذج هو : (السندباد)
ولعل الشاعر صلاح عبد الصبور كان أسبق معاصرينا إلى استخدام هذا الرمز، وتقمصه في قصيدته(رحلة في الليل)من ديوانه الأول(الناس في بلادي).
وقد سبقت هذا الشاعر إرهاصات باتخاذ ذلك الرمز من أهمها حياة الشاعر علي محمود طه وفنه، ومن أكثر الإرهاصات لفتا للأنظار في أدبنا المعاصر لشخصية السندباد كتابات الدكتور حسين فوزي ومن أهم كتبه الرائدة(حديث السندباد القديم).
غير أن هذه الشخصية انتقلت كنموذج فني إلى عالم الشعر ،وكان لها من الأبعاد النفسية والفنية في شعرنا المعاصر وبخاصة شعر الشاعرين صلاح عبد الصبور وخليل حاوي .

1_السندباد في مرحلته الأولى عند صلاح عبد الصبور :
رحلة السندباد :هي رحلة الفنان ومغامرته في سبيل الإبداع الفني ، وهي الطريق بين التجربة النفسية للشاعر واضطرامها داخل كيانه، وبين وصوله إلى مرافىء الورق حروفا نابضة بعذابه مضيئة برؤيته الجديدة للأشياء.
2_السندباد في مرحلته الثانية عند صلاح عبد الصبور:
السندباد هنا يعيش سأما وتعاسة روحية ، لم تعد تشوقه رغبة ، ويموت رعبا ويحيا توجسا وخوفا لأننا نحيا كما يقول صلاح عبد الصبور في زمن الحق الضائع، فحياة الفنان في المجتمع المعاصر متجمدة ولا إثارة في الأشياء.
3_السندباد في مرحلته الثالثة عند صلاح عبد الصبور :
يحاول صلاح عبد الصبور في هذه المرحلة ألا يجد طريقه عبر العالم الخارجي ، بل يشتق طريقه عبر عالمه النفسي ويرحل في أغوار ذاته ، وفي كتاب صلاح (حياتي في الشعر)حديث عن مرحلة تحول فكري خطير مر بها.
4_السندباد في رحلته الثامنة :خليل حاوي:
كان الديوان الثاني لخليل حاوي يمثل توحد الشاعر بمجتمعه العربي ، ويتجلى أوضح ما يكون هذا التوحد في قصيدته (السندباد في رحلته الثامنة) التي تمثل رحلة في عالم اللاوعي ، يجوس فيها الشاعر دروب نزعاته الخفية ، ويستجلي معالمها العميقة ، فقصيدته تلك مثال موفق لحلول الشاعر في قلب أمته العربية ، وشفافية سماته النفسية، ورموزه الفنية عن شخصيتها الراهنة بكل نقائصها وتطلعاتها ، وعن مكوناتها التاريخية بكل ما كان لها من قدرة على الاتصال بجوهر الوجود، وحمل لأعباء النبوة في شخصية نبيها العربي ، الذي مر الشاعر في رحلته بتجارب من النقاء والتطهر تشبه تجاربه ، وقد التفت السندباد ، حين وصل إلى لحظة التطهر والاستعداد لتقبل الرسالة ، إلى النموذج المحمدي وقد أتى إليه ملاك الرب ، وشق صدره ، وأزال عنه هواجس الشيطان ،أما هو فقد عانى تجربة رهيبة حين رأى أن هذه الرحلة الاستطلاعية تفرض عليه أن يبتر أحد أعضائه ، غير أنه تجلد للمحنة .
لقد كانت هذه الرحلة تشف في ذات الشاعر عن معاناة مرة في استكشاف سرائر أمته ، وما يسري في أعماق كيانها من وهن وتصدع ، بعيدا عن التقريرية والمباشرة والتجاء إلى الرموز التاريخية والأسطورية.

ومن النماذج الأخرى الموظفة في شعرنا :
2_بشر الصوفي :صلاح عبد الصبور:
يميل صلاح عبد الصبور في شعره إلى المراوحة بين وسائل الحس ، ووسائل التأمل الباطني ، ولذلك تلمس قناع رجل صوفي شهير جاء في الأثر عنه :
"أبو نصر ، بشر بن الحارث ، كان قد طلب الحديث ، وسمع سماعًا كثيرًا ، ثم مال إلى التصوف ، ومشى يومًا في السوق ، فأفزعه الناس ، فخلع نعليه ، ووضعهما تحت إبطيه ، وانطلق يجري في الرمضاء ، فلم يدركه أحد".
ونغمة القرار في توظيف هذا القناع ، هي فقدان الإنسان لمعنى الحياة ، ولوسيلة توافقه مع الوجود ، فقدانه للشيء الذي يريد ، مع ارتطامه بأشياء لا يريدها .
واستطاع صلاح بوسائل فنية ك (الحوار الداخلي ،والحوار النفسي، والتجسيد)أن يحقق هدفين :
1_أن نعيش في قصائده داخل القناع التاريخي والصوفي الذي اختاره،فنعيش في بيئته وملابساته وفي ملامحه النفسية .
2_أن نستشف _عبر هذا القناع _آراء الشاعر واتجاهاته.
نماذج أسطورية لدى البياتي :
3_ الحلاج :
من أهم ملامح الحلاج التي صيغت منها قصيدة البياتي(عذاب الحلاج) من ديوانه (سفر الفقر والثورة) ، الثورة على السلطة الغاشمة ، والتعاطف مع الفقراء ومسلوبي الحقوق.
ولعل أهم ما حدث للحلاج في حياته حقيقة هو تلك النهاية الفاجعة بصلبه في بغداد بعد إثارة الجماهير عليه ، وحاول البياتي أن يضفر من هذه القسمات مع قسمات أخرى من حياته ،وتجربته الذاتية ،وجودا فنيا لا ينتمي لزمن معين.
4_ أبو العلاء :
كانت محنة أبي العلاء المعري في الحقيقة هي المجتمع الذي تستشري فيه مأساة الأخلاق، ومأساة الظلم ، نتيجة لخلل في تركيبه، وفقدان الأسس الصالحة لبناء اجتماعي قويم .
وذلك هو المحور الذي اعتمد عليه البياتي في القناع الثاني من ديوانه(سفر الفقر والثورة)تاركا البعد الثاني في فلسفة أبي العلاء المعري التي تشف عنها مجموعة أشعاره (التشاؤم ، رفض الحياة)
إن من آصل ملامح الرمز الفني في هذا المجال أن يجتاز تخوم الزمن ، واتجاه البياتي إلى النموذج الفني يطور فنه الشعري ويعمق غاياته الإنسانية ،ويخلصه من الشوائب التي كانت تتبدى في قصائده الغنائية .

ج-الحكاية
إن ما في الأسطورة من عنصر القص قد لفت شعراءنا ، فحاولوا وخاصة شعراء مدارس ماقبل الحرب العالمية الثانية أن يصوغوا شعرا عربيا فيه بعض الحكايات الأسطورية من مصادر مختلفة ، وأذكر هنا طرفًا من هذه الحكايات:
1_حكايات الحيوان _شوقي :
جمع ناشر الجزء الرابع من الشوقيات ، نحوا من خمسين قطعة ، نشرت مستقلة فيما قبل بعنوان (منتخبات من شعر شوقي في الحيوان ) دون تتبع لتواريخ القصائد أو محاولة تحري المناسبات الفردية والجماعية التي كانت بعث إنشائها .
بيد أن هذه الحكايات تحمل مضمونا اجتماعيا وطنيا واضحا،ويبدو أن (شوقي) قد ألف هذه الحكايات في فترات متباعدة، ومناسبات مختلفة ، إذ اختلف مستواها الفني ، فصدر شوقي بعض الحكايات بالعبرة منها ، كما عقب على أخرى بخاتمة وعظية ، ولعله قد أضاف بهذه الحكايات إلى فننا الشعري كثيرا ،حيث أخضع لغته لتصوير التفاصيل الصغيرة ،ولإجراء الحوار البسيط على ألسنة الحيوان .
2-من الأدب الشعبي _خليل مطران :
أكثر خليل مطران من استيحاء الواقع الإجتماعي في أقاصيص فنية (مقتل بزر جمهر ، واللبن والدم ) ،حتى ليعتبره مندور رائدا للشعر الموضوعي ، وقد حرص على أن يوثق صلة قصصه بالواقع الإجتماعي ،فأطراف قصصه السابقة هي الحاكم الظالم ، والأمة المستذلة ، والمفكر ...رمز الرفض الإنساني الخالد.
ويلاحظ في قصصه أنه يتخلى عن التعبير بالصورة الشعرية وهي في الحقيقة مشكلة في قصصنا ومسرحياتنا الشعرية .
ففي قصي
3_من الكتاب المقدس: إلياس أبو شبكة :
في أفاعي الفردوس يستوحي إلياس أبو شبكة حكايتين من حكايات التوراة (شمشون وسدوم ) تدوران حول الغريزة الجنسية، ومدى ما تصل به الإنسان من نسيان للقيم والفضائل وغفلة عن مذاهب القوة والحق .
ويتبين الشاعر أن المهم ليس الوقوع على المادة الفنية للشعر مهما كان هذا الوقوع موفقا ، بقدر أهمية التناول الفني، واستخراج الدلالات أو الأبعاد الفكرية والشعورية في تلك المادة من خلال توظيفها في عمل فني ، وليس من خلال صياغتها ونقلها من إطارها النثري إلى إطار نظمي .

4- من الأساطير :أحمد زكي أبو شادي :
للشاعر أحمد زكي أبو شادي محاولات تجريبية كثيرة في الشعر ، فقد حاول أن ينشىء القصة الشعرية والأوبرا ،وله محاولات شتى في تنويع القوافي والأوزان ،وصل بها حينا إلى الشعر المرسل.
وفي مجال الإستفادة من التراث الأسطوري ،وجدناه يتجه إلى الأساطير اليونانية والفرعونية في قصائده:أورفيوس ويورديس،هرقل،ودنيال في جب الأسود وغيرها .
وسواء أأجاد أبو شادي أوغيره نظم الأساطير أم لم يجد ، فإن النظم ليس غاية الشاعر من العودة للأساطير ، وإنما يعود إليها يعود ليتخذ من لغتها وأجوائها وشخصياتها ، وسائط فنية _أثبتت قدرتها على التأثير في النفس الإنسانية عبر مختلف العصور.

_ترجمة الأساطير :
الترجمة وجه من وجوه الإستفادة في الشعر العربي من الأساطير ،ومن الأدب الغربي الذي دار حولها .
وقد ترجم المازني قصيدة (الرعي المعبود )، وترجم العقاد في الجزء الأول من ديوانه (فينوس على جثة أدونيس ) لشكسبير .

هذه ألوان من الاستفادة بعنصر الحكاية في التراث الشعبي _أساطير أو حكايات شعبية كما فعل أحمد زكي أبو شادي ، أو ترجمتها كما فعل المازني والعقاد تكون أهون صورها ، ولعل محاولة إعادة تشكيلها وتركيزها حول محور يشع بغاية الشاعر ، ومضمونه العصري ، كما فعل شوقي في قصص الحيوان ، ومطران في الحكايات الشعبية تكون أعلى قيمة ، وإن كانت أقل في قيمتها الفنية _بصورة عامة_ من تغلغل الأساطير وروحها في الأعمال الشعرية المعاصرة ، كتغلغل أسطورة تموز في شعر السياب .

5_ظواهر ثانوية في الاستفادة من الأسطورة :
1_النظير الأسطوري :
وهو أحد المناهج التي دعا إليها صلاح عبد الصبور في الاستفادة من الأسطورة ، متأثرا خطى إليوت_واتبعها في بعض شعره.
حيث يعمد إلى تجسيد الحادثة أو الموقف الأسطوري أو التاريخي القديم دون ذكر أسماء ، أو أماكن توضح هذه الإشارات، تاركا دلالتها تلعب على مستويين: مستوى العطاء العفوي داخل النسيج الشعري ، ومستوى استثارة هذه الأحداث والمواقف الأسطورية وابتعاث دلالتها .
2_البناء :
حاول الدكتور أبو شادي الاستفادة من بعض أوزان الزجل ليكتسب الشعر عن طريق هذه الأوزان ما في الزجل من خفة ورقة روح ، وحاول كامل أيوب الاستمرار في هذه الاستفادة منتقلا من الاستفادة الجزئية في الوزن إلى اكتشاف عناصر التكوين الدرامي للأغنية الشعبية وللموال ومحاولة إثراء القصيدة بالمفردات الريفية .
غير أن هذه المحاولات ما تزال في حاجة إلى الصقل.

الفصل السادس الأسطورة في المسرحية الشعرية ):
تمهيد : مسرحنا الشعري:
منذ المشاهد الحوارية التي كان يمثلها الكهنة أمام ساحات المعابد في مصر القديمة _ والتي كانت تستمد موضوعاتها من العقائد والأساطير ،وبخاصة أسطورة الإله المعذب أوزيريس وزوجة الوالهة إيزيس _ ظلت صلة الفن المسرحي بعالم الأسطورة مستمرة عبر الزمن فكان المسرح الإغريقي يرى في الأساطير منبعه الثر .
وحين التفتنا إلى ذلك الفن وكان علينا أن نشارك في إنتاجه ، كانت_ (أهل الكهف)و(بجماليون)و(أوديب)لتوفيق الحكيم ولباكثير _سيراعلى طريق عالمي ممهد واحتذاء لتقليد مسرحي أصيل.
لكن شوقي كان هو بداية التأصيل لهذا الفن في شعرنا المعاصر ،وله مجموعة من المسرحيات الشعرية ، يدور بعضها حول التاريخ المصري القديم والحديث (مصرع كليوباترا ،وقمبيز،وعلي بك الكبير)، وتستقي(مجنون ليلى ،وعنترة) من الحكايات الشعبية التي نسجها الخيال العربي حول حب قيس بن الملوح لابنة عمه ليلى وتفانيه في هذا الحب ، وحول سيرة عنترة وبطولته.
وتابع شوقي عزيز أباظة ، فتعددت مسرحياته كما تعددت موضوعاتها وتنوعت مصادرها ، فمن مسرحيات تدور حول الأساطير الأدبية ، والشعبية كمسرحيته (قيس ولبنى)و(شهريار) إلى مسرحيات تستقي أحداثها من التاريخ ، وتدور حول فترات هامة، وشخصيات نادرة كمسرحياته عن العباسة ،والناصر، وشجرة الدر، أو مسرحيات تستلهم الواقع الإجتماعي وتحاول أن تمس قضاياه كمسرحية (أوراق الخريف).
وبالإضافة إلى شوقي وعزيز أباظة كان الشاعر علي محمود طه ، والشاعر سعيد عقل يحاول كل منهما أن يَرِد هذا المورد فاستلهم علي أسطورة فرعونية (أغنية الرياح الأربع) ، واستلهم عقل أسطورة فينيقية عن إيروب وزوس وقدموس غير أن النتاج الشعري ما لبث أن أسلم زمامه للقصيدة الغنائية حينا من الزمن ..ولم يرتد إلى محاولة (المسرحية) إلا حين نشط عبد الرحمن الشرقاوي .
ثم كانت المحاولة الجادة (مأساة الحلاج ) لصلاح عبد الصبور .
ولعل تناول بعض المسرحيات ، والكشف عن المادة الأسطورية فيها ، يعطي القارىء صورة لاستخدام شعرائنا المعاصرين للأساطير في مسرحياتهم ، وفيما يلي نعرض لكل مسرحية من هذه المسرحيات :
1_مجنون ليلى :
استقى أحمد شوقي أحداث هذه المسرحية من الحكايات الشعبية المنسوجة حول قيس العامري لابنة عمه ليلى _ولو أنه ترك من الأخبار ماكان يغني المسرحية ،ووشح هذه الحكايات بما عرف عن العرب من عادات وخرافات وأساطير ،خاصة تجسد عالم الجن في خيالهم وآثاره في حياتهم وقيامه بالإلهام لشعرائهم لكان أجدى .
والملاحظ أن مضامين شوقي كانت قريبة الغور ولم يستغل المادة الأسطورية استغلالا جيدا ، فظهر التناقض الواضح بين تقديس العادات في بداية المسرحية ، ثم الارتداد عنها في نهايتها ، وإقحام الفصل الخاص بالجن دون صهره في الكيان الفني للمسرحية ، والتقاط الجوانب السلبية في شخصية قيس وشخصية ليلى ، والانتهاء بموت الحبيبين على نحو لا مسوغ له.
وقد كان هدف المؤلف من هذه المسرحية الإشادة بالنبل العربي والتغني بسمو العرب وتضحياتهم بحياتهم ، في سبيل رعاية التقاليد كما حدث لقيس وليلى.
2_عنترة :
إن ما قدمه شوقي في هذه المسرحية كان متواضعا ، فهو لم يحسن استغلال المادة الأسطورية والتاريخية التي بين يديه في بناء المسرحية وتصوير الشخصيات ،ولم يكن موفقا في ترك شخصيات على جانب كبير من الأهمية ، ولم يحسن الاستفادة من الشخصيات الثانوية كصخر ووالد عنترة ، ولم يبد صراع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wwpr.forummaroc.net
خادم المنتدى
الادارة والتواصل
الادارة والتواصل
خادم المنتدى


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5804
نقاط : 8802
السٌّمعَة : 159
تاريخ التسجيل : 11/05/2012
الموقع : منتدى الفردوس المفقود
العمل/الترفيه : أستاذ/الأنترنيت/ القراءة

توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر Empty
مُساهمةموضوع: رد: توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر   توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر Emptyالجمعة أكتوبر 19, 2012 5:07 pm



شكرا جزيلا لك على ما تقضلت بانتقائه و تقديمه لنا

دمت بود لامنتهي
تقديري الدائم

تحياتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wwpr.forummaroc.net/
 
توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» عتبة الخطاب المقدماتي في اديوان الشعري المغربي المعاصر
»  فاطمة المنصوري نجمة مغربية تضيء العالم العربي بتحليها الأدبي وحوارها مع عرار تطل علينا اليوم في حوار مع نجمعة مغربية تضيء العالم العربي بتحليها الأدبي ، هذه الشامخة بشموخ مدينة سلا تلك المدينة ضاربة في عمق التاريخ والحضارة منذ العهد الروماني والفينيقي
» منهجية تحليل النص الشعري فيديو
» المقاربة البنوية كاختيار منهجي لقراءة النص الادبي المعاصر
» الخطاب الشعري وإشكاليات الإزاحة اللغوية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات الفردوس المفقود :: منتدى الثقافة والأدب :: الثقافة والأدب-
انتقل الى: