إن المشهد التعليمي اليوم بالمغرب لا ينطبق عليه سوى قوله تعالى" كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا"، فقد بات من المعروف أن كل وزير جديد يبدأ مهامه الوزارية بهذا القطاع المنهك ، بهد البينان الذي بناه سلفه ، وعلى أشلائه يحاول إقامة معلم آخر، وهو عمل لا جدوى منه سوى أنه علامة من علامات الارتجال المقيت في غياب إستراتيجية تعليمية وطنية . وهذه بدعة متبعة في قطاع التعليم
من قمته إلى أسفل هرمه من الوزير إلى اصغر موظف فيه ، فأول ما يقوم به المسؤولون الجدد (وزراء –مدراء أكاديميات- نواب.- مديرو مؤسسات وهلم جرا ...) هو الشروع في هدم ما بناه اسلافهم بدءا بأثاث المكاتب مرورا بتغيير المساعدين والمعاونين وانتهاء بإعادة النظر في مشاريع و برامج وخطط العمل مهما كانت ناجعة . في حين ان هذا القطاع المريض يحتاج إلى سياسات والى تغيرات جذرية واضحة و ليس الى حلول ترقيعية وانية ومتسرعة ومرتجلة وسطحية للاستهلاك الإعلامي فقط .
لقد استحوذ وزير التربية الوطنية الجديد على الحيز الأكبر في وسائل الإعلام بمختلف تلاوينها بخرجاته و تصريحاته حول نية وزارته في إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية٬وهو نفس الكلام الذي اجتره أسلافه ، لكننا دائما ، وكما يقول المثل العربي :" نسمع جعجعة ولا نرى طحينا "
لقد تتبعنا جميعا كيف اتخذ الوزير الوفا قرارات قيل انها" تاريخية " ، صفق لها الأتباع والأشياع له ، وهم نفسهم من صفقوا بالأمس وزينوا صورة الذين من قبله . لذلك فإنني أود أن أنبه-كمغربي أولا وكرجل تعليم ثانيا - السيد الوزير إلى مغبة السقوط في مطبات نظرائه من قبله ومن تقويض ما بني على استعجال وتعويضه ببنيان من الارتجال وادعوه الى التريث لان حجم الفساد الذي ينخر هذا القطاع اكبر من ان تعالجه نية حسنة او تصريح ناري او إصدار مذكرة أو إيفاد لجنة او تفعيل توصية أو عقد اجتماع مهما طالت مدته . ان الأمر اكبر واخطر من ذلك بكثير يا سيدي الوزير لان الفساد قد استشرى في جسم هذا القطاع ولم تعد تنفع معه لا المهدءات و لا المسكنات و لا الحلول الاستعجالية والارتجالية والترقيعية ولا التصريحات النارية ولا التشبيهات الهزلية ....لأن الفساد في التعليم ليس وليد اللحظة الآنية، بل إنه متجذر في المنظومة التربوية منذ ......الاستقلال .
ان الامر اكثر من ان يلعن كل وزير جديد سياسة الذي قبله ، يستدعي دراسة واقع الفساد في قطاع التعليم دراسة شاملة ومنظمة لجميع اوجهه ، و من حيث درجة انتشاره ومظاهره وحجمه وتأثيره .
ولا يمكن لأي وزير مهما حسنت نيته ومهما كانت درجة وفائه ( أسي الوفا) مباشرة أي إصلاح دون مواجهة الفساد بجميع أشكاله لأنه عقبة كأداء وعائق حقيقي لما أصبح يمتلكه من قوة مقاومة حقيقية ولما له من قدرة على إفساد أي خطط لإصلاح النظام التعليمي، بسبب اتساع جبهة المستفيدين من مظاهره، و تعدد أشكاله ، وانهيار المنظومة الأخلاقية لدى كثير من العاملين في قطاع التعليم.
لقد اصبح الفساد واحدا من أبرز المشاكل التي طفت بقوة على السطح في قطاع التعليم ، خلال السنوات الأخيرة . ولا يمر يوم دون أن تطلع علينا مقالات و تقارير صحفية تشير إلى استعمال الموقع الوظيفي سواء في المصالح المركزية أو الجهوية أو الإقليمية بل حتى على صعيد مؤسسات التربية والتكوين ، من أجل الكسب غير المشروع وذلك بوضع اليد على المال العام والابتزاز، والإكراه، والاختلاس، والتواطؤ و المحسوبية
و الزبونية في الترقية والحركة الانتقالية و في توزيع الآتاوات والمساكن الإدارية وإسناد مناصب المسؤولية وفي مجال البناءات التوريدات وتفشي ظاهرة غياب الموظفين و وتنامي ظاهرة الاشباح والإهمال والتقصير في أداء العمل الوظيفي و في تزوير النتائج الصفية و غض الطرف عن الغش بجميع أشكاله و إجبار التلاميذ على حضور الساعات الخصوصية المؤدى عنها . ، علاوة علي المحاباة و التمييز ، وما يتضمنه ذلك من تهاون في تطبيق معايير الكفاءة واستبدال المعايير الموضوعية بمعايير شخصية وخاصة إذا تعلق الأمر بالأصدقاء أو الزملاء أو الأقارب. إن تعدد الواقفين وراء الفساد في القطاع التعليمي يدعونا إلى الإعتراف بدون تحفظ بوجود " لوبي الفساد" لوبي تمكن من تخريب القطاع ومن تحويله إلى بقرة حلوب ، لوبي ساهم في تخريب المدرسة العمومية، و صعود نجم المدرسة الخصوصية مدرسة الخلاص والنجاح !!!!!!.
وفي اعتقادي فإن سبب تنامي هذه الظواهر و تغلغلها بشكل مخيف في قطاع التعليم يكمن- ضمن الاسباب الأخرى التي سيأتي ذكرها - في اضمحلال قيم الامانة والاخلاص و صعود الحثالة الاجتماعية واحتلالها لمختلف مواقع المسؤولية معتمدة في ذلك على الشرعية السياسية و الحزبية والنقابية والعشائرية و القبلية في تحدي صارخ لمبدا المساواة وتكافؤ الفرص.
وفي غياب تام للمراقبة والمحاسبة والمساءلة والزجر( التي لا نسمع بها إلا كشعارات تملأ الدنيا ) تمكن لوبي الفاسدين والمفسدين من القيام بإرساء قواعد لا تمت للعمل الشريف بصلة من قبيل التركيز على المظاهر وسن سياسة اللامبالاة بإعمال قاعدة " دعه يسير دعه يمر: "LAISSER PASSER LAISSER FAIRE "
و يصعب تسليط الضوء على ظاهرة الفساد في قطاع التعليم بالمغرب دون ربطها بتاريخ فساد الإدارة المغربية في جميع القطاعات . و الفساد ليس قدر التعليم بمفرده بقدر ما هو انعكاس لمختلف تجليات الفساد المستشري في اوصال المجتمع المغربي ، وهذا يكشف أحد الأسباب المهمة في تبلور تلك الظاهرة الخطيرة التي تقف عقبة في طريق تقدم عملية التنمية بأصعدتها المختلفة مبددة الطاقات المالية والبشرية ومكرسة لحالة التخلف في مجتمعنا المغربي .
لقد أظهرت الكثير من الدراسات التي أجريت خلال العقد الماضي في كثير من الدول التأثير السلبي للفساد على التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ( الأمر لا يحتاج عندنا إلى دراسة فالفساد هو القاعدة في السلوك اليومي )، إن الفساد يزيد من التكلفة، ويقلل من كفاءة وجودة الخدمات، ويشوه عملية صناعة القرار، ويقوِّض القيم الاجتماعية.
وتشير عدد من الدراسات والتعريفات إلى أن هناك نوعين من الفساد:1) الفساد الكبير ، وهو المرتبط بمجال الأعمال ويتعلق بالتعامل مع الأجهزة الحكومية وغيرها لانجاز وإتمام الصفقات والمعاملات. 2) الفساد الصغير ، و هو الأكثر شيوعًا بين أطراف العملية التعليمية، ويظهر في بعض التعاملات اليومية والروتينية التي تتم خلال التفاعلات والمعاملات بين الأطراف المشتركة في العملية التعليمية، وهذا لا يعني عدم ممارسة الفساد الكبير الفساد رقم 1.
و يعد الفساد في التعليم الأخطر علي الإطلاق مقارنة بممارسات وصنوف الفساد في قطاعات أخري مثل القضاء و الجمارك والضرائب والبوليس أو غيرها، لانه يشكل اهتزازًا كبيرًا للمنظومة المهنية والأخلاقية الحاكمة لكافة مؤسسات المجتمع الأخري، وإذا كانت ظاهرة الفساد شائعة في المصالح المركزية سابقا ، فإن أهم ما في إبعادها الجديدة هو انفلاتها، وامتدادها إلى المصالح التعليمية الجهوية والإقليمية والمؤسسات التعليمية،علي اعتبار أنها (هذه المؤسسات) تغذي مختلف مرافق الدولة بالخريجين الذين يعملون كمسؤولين وكقادة وكموظفين.
يعتبر الجانب المالي المحرك والدافع الأساس لظاهرة الفساد ، إذ ينشأ شعور داخلي لدى الأفراد أو الجماعات بفكرة تتجذر في نفوسهم تستند إلى كون أن من يملك المال يملك السلطة، ومن يملك السلطة يملك المال، مستغلين بذلك مواقع المسؤولية لتحقيق مزايا ومكاسب تخالف القوانين والأعراف السائدة في المجتمع.
ولكن فى قطاع التعليم على وجه الخصوص يجب عدم التوقف فقط عند الفساد المالي المرتبط بعمليات التربح واستغلال الوظيفة، ولكن هناك أيضًا الفساد المرتبط بعدم الالتزام بالسلوك النزيه، ومن الأمثلة على ذلك نجد وضع معيار الأولوية في شغل مناصب المسؤولية والتوظيف والترقية والانتقال هذا بالإضافة إلى ما يرتبط بالامتحانات والشهادات إذ أدى انعدام النزاهة إلى شغل الوظائف العامة والمراكز الوظيفية العليا من طرف أشخاص غير مؤهلين وغير أكفاء مما أثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات وزيادة الإنتاج.
نصر الله البوعيشي
يليه : 2/2مظاهر الفساد في قطاع التعليم