آيه الخوالده:
تكمن اهمية النقد الكتابي في انه الدافع الرئيسي للارتقاء بلغة الكتابة, فالكاتب عندما يعلم ان هناك رقابة تترصد اخطاءه وعثراته يفكر جيدا قبل ان يسرد افكاره في سطور, فيولي كتابته العناية والاهتمام اللازمين وبالتالي يكسب جمهور القراءة العريض كنتيجة طبيعية للجهد المبذول والتغذية الثقافية السليمة, كما ان الاديب بحاجة الى النقد الذي يقوم على كشف حقيقة الكتابة ويعّرف بها. حول اهمية النقد للاعمال الادبية ودورها في الكشف عن جماليات وسلبيات العمل الادبي كان لنا هذا الحوار مع مجموعة من الادباء والنقاد
فن النقد اهم فنون الكتابة واكثرها صعوبة
- يرى الناقد والشاعر محمود الشلبي ان النقد مرحلة متأخرة من زمن القول, او زمن الابداع, لذا فانه يتناول المادة الادبية المكتوبة, او الاعمال الاخرى الابداعية بالقراءة والتحليل والتمييز والتمحيص, وابداء الرأي في جودتها او ضعفها... وهو الذي يوجه مسار العمل الادبي والفني الى آفاق سليمة وقويمة.
ولا اعتقد ان عملا ادبيا قد ينحو منحى النضج والتمام والتميز من دون حركة نقدية جادة تعمل على توجيهه, لذا فهو فن كتابي يتطلب الدراية والمهارة والثقافة والذوق ليتمكن الناقد من التعامل مع النصوص الادبية بوعي وعمق وخبرة.. لذا فان النقد في بعض الحالات يشكل حالة ابداعية ايضا توازي العمل المنقود, لانه كتابة ثانية للنص.
ومن هنا تبدو صعوبته واهميته, وضرورته في مواكبة الحراك الادبي وتطويره, وتصويب مساره, على ان يكون الناقد مؤهلاء لهذا العمل اذا لا بد له من الاحاطة التامة بالنظريات النقدية القديمة والحديثة والتعايش العميق الواعي مع حركة الكتابة الادبية, والتمتع بوعي نقدي وحسّ قادر على قراءة النص بموضوعية وحيادية وتجرد, بعيدا عن الميل والهوى والانحياز الى النص وصاحبه مسبقا, كما يحدث في كثير من الاحيان.
بينما يرى د. سليمان الازرعي ان النقد لا يعتبر احد الفنون فهو ليس فنا ابداعيا, الفنون الابداعية هي الشعر والرواية والقصة, فالنقد هو الفعالية التي تقيّم الفن والعمل الابداعي, الفعالية الشاملة التي تدخل فيها الثقافة والمعرفة المهنية وكل سبل المعرفة, ومهمتها تقييم النص الابداعي وانصافه ومحاكمته, لذلك هي الفعالية الاكثر صعوبة والتي تتطلب ادوات معرفية لا حصر لها.
وبرى الناقد د. عزمي خميس اننا لا نستطيع أن نعتبر النقد أهم فنون الكتابة, أو أكثرها صعوبة, ذلك أن الفنون الكتابية المختلفة لا تقاس بهذا المقياس. فكل أجناس الكتابة هامة, وكتابتها تنطوي على صعوبات تخص كل جنس منها.النقد له ضرورته وله وظيفته التي لا يشاركه أي جنس كتابي بها, كما أن الناقد الحصيف من المفترض أن تتوافر لديه الثقافة العميقة الواسعة, والاطلاع الدقيق على جنس الإبداع الذي يتصدى لنقده, وأن يمتلك الأدوات العلمية التي لا غنى عنها والمتمثلة بمناهج النقد المختلفة التي تمكنه من التعامل بموضوعية مع النص المراد دراسته.
وعلينا هنا أن لا ننسى أن مفهوم النقد بحد ذاته قد تطور وتغير ولم يعد معنيا بكشف عيوب النص أو الحكم عليه لغويا وأسلوبيا ومضمونيا فقط, فقد أصبح النقد في بعض النظريات نصا ابداعيا شأنه في ذلك شأن الشعر والرواية وغيرهما. وهذا موضوع يطول فيه الحديث ويتشعب.
فيما يرى الناقد فخري صالح بان النقد من اهم فنون الكتابة لان المفاضلة بين اشكال الكتابة غير ضرورية, لكن الكتابة النقدية الحقيقية تتطلب استعدادا وثقافة عميقة ومعرفة واسعة من الاشياء, الى جانب الموهبة التي يصعب ان يكون الناقد ناقدا اذا لم تكن هذه الموهبة التي يصعب موجودة لديه, لان النقد الادبي والنقد بعامة فيه جانب موضوعي يتطلب اعمال الفكر مما يجعله مختلفا عن كتابة الرواية اوالقصة والشعر التي يجد فيها الكاتب نفسه على سجيتها في احيان كثيرة.
غياب النقد الجاد, قد يؤدي الى مجانية التعبير
- يؤكد الشلبي ان للنقد الجاد اهمية في توجيه النص الشعري, وفي رقيه ونضجه, فآراء الناقد الحصيف ضرورية لرفد الحالة الابداعية بالضوابط والملاحظات: ايجابا او سلبا, واعتقد ان قدرة الناقد وثقافته, وتخصصه ستعمل دورها في الارتقاء بلغة الكتابة اذا كان ثمة عناية حقيقية بالعمل المنقود من خلال دراسته وفهمه وتذوقه ومعرفة مواطن القوة والضعف فيه, ونظرا لأهمية اللغة الشعرية وأساليب الكتابة, فإنّ لآراء الناقد دورا في تطويرها والارتقاء بالوعي الشعريّ الى مشارف فنية متقدمة.
ان غياب النقد الجاد, قد يؤدي الى مجانية التعبير, وهلامية الاسلوب فالناقد رقيب مثقف, معني بدراسة ادوات الكاتب, لغة واسلوبا من اجل بعث حياة جديدة فيها تعمل الى جانب ابداع الكاتب الى تحسين مستوى العمل المنقود.. وتحسين مستواه.. وهذه العناية بالعمل الادبي من قبل الناقد الموضوعي تُسهم في اضاءة النص, وتنقيته, وتحقيق جماليات اضافية الى ما في النص الادبي من قيم فنية وموضوعية اصلا.. باعتبارها الاساس, والاصل الماثل بين يدي الناقد.
ويقول الازرعي في ذلك: يقف وراء العملية النقدية هاجس رئيسي وسبب نبيل واحد وهو الاحتفاء بالعمل الراقي والتوكيد على رقيه ودعوة المبدعين للتوجه نحو هذا النوع من الكتابة او ذاك, بالطبع لا يستبعد ان يكون وراء العملية النقدية اهداف ليست بريئة او نظيفة وتهدف في العادة الى تهديم الاسس التي يقوم عليها العمل الابداعي ومثل هذا النوع من النقد ينطوي على عدائية ما من كاتب ونصه.
فيما يعتقد خميس ان للنقد دورا في الارتقاء بأساليب الكتابة لكنه ليس الدور الحاسم ولا الوحيد. فهذه الموضوعات شديدة التداخل ولا نستطيع الحسم والجزم أن سببا واحدا يقف خلف الارتقاء بالكتابة وأساليبها. لكن من المهم أن نتوقف أمام دور النقد, وتأثيره على المبدع وعلى القارئ أيضا. وعلينا التنبه أن هناك الكثير من الشطط في الكتابات النقدية, وهناك أحيانا عدم وضوح في الرؤية لدى بعض النقاد يدفعهم لقول ما لا يفهم من المصطلحات أو التحليلات التي لاتنم عن سعة اطلاع كما يتوهم البعض, بل تنم عن رغبة في الظهور وتأكيد الذات ولو على حساب القارئ والكاتب معا. وربما كان من المهم هنا التأكيد على أن الكثير من أساليب النقد ومناهجه ومدارسه, مستوردة من ثقافة غربية لا تنطبق في كثير من الأحيان مع ثقافتنا الأمر الذي يجعل من النصوص النقدية نصوصا غريبة وهجينة في أغلب الحالات.
وحول وظيفة النفد يقول صالح: للنقد وظائف عديدة يصعب حصرها حتى انني اتساءل احيانا ما هي وظيفة الناقد, ولماذا يكتب النقاد النقد؟ هل هو بدافع الارتقاء بالذائقة الادبية ام انه محاولة لرصد تحولات الاشكال والانواع الادبية, في ظني ان الكتابة النقدية هي شكل من اشكال التغيير عن الذات, وما اقصده هو ان الكتابة النقدية ليست مادة جافة لا ماء فيها, بل هي مثل القصة والرواية والشعر بحاجة الى حضور الاسلوب الشخصي للناقد.
على المبدع ان يتقبل النقد
- يبين الشلبي ان على المبدع ان يتقبل النقد, وان ينظر اليه كما ينظرُ الى عمله المنقود نصا كان, ام عملا فنيا.. وان يتعامل معه بجدّية واحترام, ويُفيد منه في تطوير اعماله الابداعية.. وينظر اليه على انه محاولة اخرى للدخول الى العمل وقراءته من اجل تطويره.. وان يأخذ منه ما يعتقد انه المفيد, ويترك ما يراه هامشيا لا قيمة له. فليس كل نقد ذا قيمة, وليس كله من دون قيمة. المهم ان يكون الناقد مؤهلا لهذا العمل الدقيق الشاق, وان يكون مسلحا بالذوق الرفيع, والرؤية الواعظة, والاحساس المرهف, بكثير من التجرد والموضوعية لكي يتمكن من تقديم خبرته الفنية الى خبرة الفنان صاحب النص. وهذا امر يتوقف على هدف النقد, وماهيته, واحاطته بحركة النقد القديم والحديث ومواكبته.
ويؤكد الازرعي على كلام الشلبي اذ يرى ان على المبدع ان ينشغل ويقلق بما يكتب من نقد حول عمله هذا او ذاك, بغض النظر عن طبيعة ذلك النقد, فالنقد هو الاداة الاساسية لتطوير حرفية المبدع ويشكل دعوة له للمضي قدما في سبيل مواصلة التجربة الابداعية ولا يجوز للمبدع ان يضيف بالنقد مهما كانت دوافعه.
ويوافقهما خميس اذ يرى ان على الفنان أو الأديب الذي يحرص على تطوير ذاته يجب أن يفتح أذنيه على كل ما يقال له أو عنه أو عن ابداعه. وقبل ذلك أن يفتح قلبه وعقله وينظر بروية الى كل الآراء التي تتناول اعماله.ذلك أن المبدع لا يكتب أو يرسم أو يعزف لنفسه, فهو يقدم عمله للآخرين وعليه أن يقبل آراءهم مهما كانت, وكل رأي مهما كان,له وجاهته ويمكن الاستفادة منه.
بينما يعتقد صالح انه ليس هنالك معيار محدد لاستقبال الكتاب للنقد الذي يوجه الى كلامهم وعادة ما ينزعج الكتاب مما يكتب عن نصوصهم, بل انهم يوجهون الاتهامات الى النقاد ويقصونه من جنة الكتابة ويعدونه متطفلين عليها, مع ان تاريخ الكتابة منذ بدأ البشر يدونون افكارهم واحاسيسهم, لم يتطور الا جنبا الى جنب مع النقد المكتوب لهذه الكتابات, وعادة ما يفتح النقد افاقا جديدة غير منظورة في تطور الاشكال والانواع الادبية ومن هنا, فان النقد يبدو ضروريا لا غنى عنه بالنسبة للكتابة الابداعية ولا اقول بالنسبة للكتاب المبدعين, فالمطلوب من النقد هو ان يؤثر في المناخ العام وان يحدث تأثيرا في الذائقة الفنية والادبية.
النقد يقوم على توضيح وتقريب العمل الادبي
- يرى الشلبي ان ثقافة الشاعر ضرورية كثقافة الناقد, والشاعر المثقف معني بالعودة الى مرجعّية معرفية ينهل منها مادته الثقافية, لأن الشاعر الذي يقتصر في اعماله على موهبته وذوقه وسمعته فقط من دون تعميق اطلاعه, وتوسيع ثقافته, وتعدّد قراءاته, سيقع حتما في دائرة التسطيح والتكرار والضعف.
فلم تعد القصيدة مجرد حالة هي او الهاما.. بل هي عمل متراكب متراكم, عمل فكري فلسفي نفسي معمّق, عمل يُنجَزُ بالمثابرة والمراجعة والثقافة, عبر مراحل مضنية من قراءة الكتب المتنوعة, والعودة الى المصادر والمراجع اللازمة لمادته سواء كان شاعرا ام ناقدا.. لذا فإن عمل الناقد والشاعر حالة جدلية لتقديم مُنجز ادبي مشترك.. وقابل للتطور والخلود.
بينما يؤكد الازرعي على ذلك بقوله: بالطبع على المبدع ان يسترشد بهذه المصادر سواء كان شاعرا ام روائيا او قاصا, فهو ليس بغنى عن هذه الكتابات النقدية النظرية لانها تعمق مفهومه للفن والابداع, اضافة الى قدرة النقد المتميزة على كشف جماليات النص الابداعي المخبئة والتي ليس من اليسير على الناس العاديين ان يدركوها.
ويضيف خميس كما قلنا, هناك مدارس نقدية متعددة, ولكل فهمها الخاص للنقد ووظيفته, نعم هناك من يمارس النقد من أجل فك ألغاز العمل الأدبي وتوضيح مراميه التي قد تكون بعيدة عن ادراك القارئ العادي, وفي هذه الحالة فإننا نكون أمام تأويل للنص أو فهم هو تأويل الناقد أو فهمه الشخصي. ومثل هذه النصوص النقدية لها أيضا محاذيرها التي يجب أن ينتبه لها القارئ, فهي أحيانا تشكل حجابا على عقل القارئ وتفرض عليه وجهة نظر محددة قد لا تكون صائبة بالضرورة, وأحيانا يشتط النقد فينسب للكاتب ما لم يقله أو يستخرج من نصه مفاهيم لم تخطر بباله. على أي حال فإن خلاصة أي عمل نقدي تتلخص في كلمتين: أن هذا العمل أعجبني أو لم يعجبني. والبقية هي اثبات هذا أو ذاك.
ويرى صالح ضرورة التأمل في اعمال الكتاب الاخرين ومن خلال النظر الى النصوص النقدية لهذه الاعمال واظن ان الناقد الكبير لا يمكن ان تصبح كتابته النقدية علامة فارقة في تاريخ الكتابة في لغة من اللغات الا اذا ترك كتابته على سجيتها في مرحلة من مراحل الكتابة.
** منشور بجريدة "العرب اليوم" الأردنية بتاريخ 17 يناير 2008