هل فكر أحدنا بفمه، وما حباه الله تعالى من نعمٍ عظيمة في هذا العضو العجيب الذي أكرمه الله تعالى به؟! ولعل أقرب الأشياء إلينا أبعدها عن مركز اهتمامنا وتفكرنا.
اللسان والشفتان والحياة
إذا لم ينتبه الإنسان إلى شفتيه ولسانه وعلاقتهما بحياته ووجوده إنساناً سوياً، فلعله إذا رزقه الله تعالى طفلاً ينتبه لهذين العضوين الثمينين، فلو كان المولود لا يعلم كيف يمتص ثدي أمه وقد جُمع علماء الأرض ليعلموا الوليد الجديد هذه المهارة التي لا حياة له بدونها لعجزوا عن ذلك، فالتفاهم بينه وبينهم معدوم. فمن علمه أن يمتص ثدي أمه وأعطاه هذه المهارة وقد خرج للحياة لتوه لا يعلم شيئاً؟ من أين جاءه هذا «العلم»؟ الذي تتوقف عليه حياته؟ ولنفرض أنه جاء إلى الحياة بدون هذا «العلم» فكيف سننقذ حياته؟!
والآن أيها الأخ الراشد المفكر افتح شفتيك وأبقهما مفتوحتين وحاول أن تبتلع لعابك، ثم أخبرني هل استطعت ذلك؟! فهل عرفت شأن الشفتين بعد ذلك؟ والآن ضع خافض لسان طبي على لسانك أو ليضعه لك الطبيب وأغلق شفتيك ثم حاول أن تبتلع لعابك فهل تستطيع ذلك؟ حتماً لا. فاللسان والشفتان أساسيتان في امتصاص المولود الجديد غذاءه من ثدي أمه، وهما أساسيان كذلك في ابتلاع أحدنا لعابه أو لقمة طعامه وبدون هاتين الخاصتين فيهما تتعطل الحياة ولا يبقى منا أحد.
والآن تأمل إن شئت قول الحق عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(البلد: 8910). والنجدان هما ثديا الأم فهما نجدة للمولود تنجدانه إذا جاع أو عطش وهما نجدة للأم في عنايتها بطفلها كلما احتاج إلى عنايتها. والنجدة كما نعلم هي المسارعة في بذل العون والمساعدة لمن يحتاجها.
وعندما يبتسم الطفل المولود لأول مرة يعم أهله كلهم السرور والبهجة، فماذا في هذه الابتسامة من سحر؟! إنها تعبير عن تفاعل اجتماعي إيجابي بدأ ينشأ بين الطفل وأهله.
وفي كتاب علم نفس يدرس في إحدى الجامعات الأمريكية(1) رسوم للشفتين تبين كيف تعبران عن انفعالات النفس الإنسانية وخلجاتها تعبيراً يدعو للدهشة بحيث ترى فيها السرور والابتسام والألم وعدم الرضى والشكوى والانزعاج والغضب والدهشة وسائر انفعالات النفس الإنسانية وهما يعبران أكثر من العيون خلافاً لما يعتقده أكثر الناس مع أنهما يتآزران مع العينين وبقية ملامح الوجه في هذه التعابير التي ذكرناها.
وإن ما أودعه الباري عز وجل في عضلات الوجه والشفتين و في العينين من إمكانية التعبير عن خلجات النفس وإنفعالاتها لهي من آيات الله تعالى العظيمة المعجزة. فإنك إن نظرت إلى إمرئ تقول في نفسك إنه ساخط أو راضٍ أو مسرور أو حزين أو غاضب، تعرف كل ذلك من نظرة إلى وجهه، فتأمل عظمة هذا الإبداع وسبح بحمد الخالق العظيم وجلاله.
وإذا نطق الطفل بكلمة «با» أو «ما» فإن سروراً غامراً يشيع في جنبات البيت، وللشفتين واللسان أهميتها البالغة في كلام الإنسان وفي اللغات العديدة التي لا تقع تحت حصر والتي تتكلم بها شعوب الأرض. فما هذه المرونة العجيبة التي تمكن اللسان والشفتين من التعبير عن أي لغة من اللغات بمنتهى السهولة واليسر. وقد كان مقدم نشرة الأخبار باللغة الإنجليزية يتكلم بسرعة فائقة تحتاج إلى تركيز فكري شديد لمتابعته، والكلام يتدفق منه تدفقاً يشبه السيل المنحدر. ولما انتهت النشرة تنفست الصعداء ثم تملكني العجب وأنا أتساءل: كيف تسنى له أن يستخدم لسانه وشفتيه وحباله الصوتية بهذه السرعة الفائقة ليعبر عما يريد التحدث به؟ إن كل حرف يتطلب من اللسان (المؤلف من 17 عضلة) أن يتخذ وضعية مناسبة للحرف وتسانده في ذلك الشفتان. ووضعية اللسان المناسب للحرف المعين تستلزم تحريك (17) عضلة، كل منها بدرجة غير الأخرى ليتسنى للسان اتخاذ تلك الوضعية. وحركة هذه العضلات تستلزم سيالات إلكترونية عصبية تنبه كل عضلة وتحركها بدرجة مناسبة وبدقة عظيمة تأتي من مركز الكلام في الدماغ. والحرف الذي يليه يستلزم مثل ذلك حتى يتم التعبير عن كلمة واحدة. ويتم كل ذلك بأجزاء الثانية وبسرعة يصعب تصورها. وفي ضبط الحبال الصوتية على الذبذبة الملائمة لكل حرف إعجاز آخر لا يقل عن الإعجاز في حركات اللسان وهكذا نرى أن في كلام الإنسان عظمة لا يستطيع أحد أن يقرر مداها إن هو فكر وتأمل. ولنعد إلى قول الحق عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}(البلد: 8910).
كنت أنتظر مرة أن تخف زحمة المرور لأعبر الشارع، وكنت بالقرب من بائع أحذية فجاء رجل وأشار بيده إلى حذاء ويبدو أن صاحب الحانوت يعرفه فأشار إليه بأصابع يديه أن ثمنه (40) ريالاً فأجابه بأصابعه (30) ريالاً ثم تساءل بملامح وجهه ويديه هل يوافق؟! فلما رفض صاحب الحانوت السعر الذي اقترحه الأبكم بإشارة من يديه، انصرف الأبكم ولم يقل شيئاً ولم يساوم البائع، بل كانت علامات الانزعاج وعدم الرضا بادية على وجهه. إن لهذا الإنسان لساناً ولكنه معطّل عن الكلام. وعند ذلك تعاظمت في نظري نعمة «القدرة على الكلام» التي منحني الله تعالى إياها فانصرفت متوجهاً إلى الجامعة لألقي محاضرتي على طلابي وأنا أسبح بحمد الله تعالى وأمجده، وقلت في نفسي آنذاك: ماذا يتوجب عليك إزاء هذه النعمة العظيمة. أيجدر بك أن تقول بلسانك كذباً أو هجراً من القول؟ أو غيبة أو نميمة؟ أو لغواً لا غناء فيه؟
حقاً إن شكر هذه النعمة العظيمة يستلزم البعد بها عن كل تلك المزلات المشينة وألا يقول الإنسان إلا حقاً. وتذكرت هدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الرامي إلى الارتفاع بالإنسان إلى آفاق الكمال، إذ تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عن خلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح»(صححه الوادعي في الصحيح المسند). ويقول (صلى الله عليه وسلم) «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (متفق عليه). وقول الحق عز وجل في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}(المؤمنون:3)، وقوله أيضاً{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ}(النساء:114). وقوله في الثناء على المؤمنين:{أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر:
. وقد يتفضل الله عز وجل على الإنسان بومضات مشرقة يعقل فيها ما لم يكن يعقله من قبل من تلك التأملات، فتفكر ساعة خير من عبادة ستين عاماً كما أثر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكذلك فلا عبادة كالتفكر.
وليس ما ذكرناه آنفاً إلا نقطة من بحور متلاطمة من آلاء الله عز وجل ونعمه على الإنسان. فماذا نقول عن الأسنان؟! لماذا يولد الطفل بدون أسنان؟! ولو كان له أسنان فهل تستطيع أم أن ترضع طفلها؟! ثم ما الحاجة إلى الأسنان إذا كان كل طعامه سائلاً لا يحتاج إلى أسنان تقطعه وتمضغه؟! ألا ينطوي ذلك على حكمة في خلق الإنسان وعلى رحمة به وبأمه؟ ولما تبزغ الأسنان تكون صغيرة رقيقة لطيفة لتتناسب مع رقة تكوين جهازه الهضمي، ثم لا تلبث بعد حين أن تنخلع من مكانها واحدة بعد الأخرى بمهارة ورقة ولطف يعجز عنها أمهر أطباء الأسنان. ثم تبزغ بمكانها أسنان دائمة أخرى وإذا تذكرنا كم هو عمر الوليد آنذاك لرأينا أنه قد صار ذا وعي وإدراك يمكنه من المحافظة على أسنانه هذه لتدوم له مدى الحياة إذا هو اتبع النصائح الصحية المتعلقة بنظافة الفم والأسنان وإذا علمناه كيف يعنى بصحة فمه وأسنانه.
وكم في الأسنان من مجالات للمفكر المتأمل، فكيف سيستفيد الإنسان من الطعام لو لم تكن له أسنان وبهذا الترتيب الدقيق الحكيم وهذا التكوين البالغ الدقة والإبداع. وكذلك للأسنان دور عظيم في قدرة الإنسان على الكلام، فالسين والشين والصاد والضاد والدال والذال والقاف والفاء كل تلك الأحرف لا بد لها من الأسنان لتتضح أصواتها ومدلولاتها.
وجهاز الكلام لدى الإنسان واسع المجال فهو يشمل أيضاً تجويف الفم والأنف والرئتين والحجاب الحاجز وعضلات الصدر ومراكز الكلام في الدماغ، وهي مجاورة لمراكز السمع ومتصلة بها والإنسان يتكلم بما سُجّل له في مراكز السمع لديه فلا يستطيع أن يقول كلمة إذا لم يكن قد سمعها من قبل. ولو أردنا تسجيل ما نسمع في اليوم الواحد لاحتجنا إلى (16) شريط كاسيت مدة كل منها ساعة واحدة فكم شريطا سنحتاج في شهر وفي سنة وفي (60) سنة؟! وأدعو القارئ الكريم للقيام بالحساب بنفسه لتتبين له الحقيقة. وكل هذه التسجيلات تجري في مركزين في الدماغ لا يتجاوز حجم كل منهما حجم حبةً صغيرة !! فتأمل هذه التكنولوجيا العظيمة في خلقك وإبداع تكوينك.
ومركز السمع متصل بمركز الكلام كما بيناه آنفاً فلو فقد المرء القدرة على السمع لفقد بالتالي القدرة على الكلام ولصار أصم أبكماً وتذكر قول ربك عز وجل إذ يذكرك بفضله عليك فيقول عز من قائل: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(الرحمن: 4). ففي أعماق تكوين كل منا خلق الله سبحانه القدرة على السمع والبيان، ولولا هاتين القدرتين لما تعلم الإنسان شيئاً ولانحدرت سويته العقلية والعلمية إلى الحضيض.
وفي خلقنا آيات وآيات لا يحصيها الإحصاء تدل على الخلاق العظيم والمبدع الحكيم وتشير إلى عنايته بالإنسان وتكريمه له. والصنعة تدل على الصانع والأثر يدل على المؤثر كما هو الاتجاه العلمي الصحيح في التفكير الموصل للحقائق {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}.
أ. د. عبدالقادر الحبيطي