حنان بديعبين الهجوم ضد الاستلاب والبحث عن الجمال وجدان
عبدالعزيز
كنت في
رحلتي عبر فضاء الكلمات ، ورغم تخفي معانيها في لبوساتها الجديدة ، عدت لم أخشى أيا منها ، فرحلتي هي تعبير عن
هموم ذاتية وأحزان مرمرية ، كلما كنت أرى
في نهاية أي مسافة فجرا ابيضا مشعا ، تصيبني رجفة الفرح وتندى نوافذ غرفتي
بالق الضياء اللغوي الجديد ، تأخذني متعة
الوصول ، وتطل نسمة خفيفة لابتسامة ارق قلب .. ولكي أكون لابد أن أكون في منتهى
الشجاعة .. وأنا أجد أي شاعرة تكتب عن الحب والرجل تشعر بالاستلاب ، مما يجعلها
ترفض النزعة البدائية ، وهي القوة ، لتلجأ
الى النزعة الذهنية والعقلية في بحثها عن تحقيق كينونتها ، وبما ان الشعر نشاط
ذهني ، فهو يرتكن الى النزعة العقلية التأملية ، لذا كانت شاعرة اليوم ترفض
الاعتماد على التصور الشكلي السطحي وتفضل الاختيار الشعري الحر معتمدة على
انفتاح فضاءات الشعر في قصيدة النثر ،
لتخفف صراع الاستلاب بانتفاضة اللغة الجمالية وتحركها من مواقعها القاموسية إلى
مواقع الانفتاح الجديد وركل ماهو قبيح من خلال الشعر ، وهي تكتب من وحي الاستلاب
التي تعانيه هذه الشاعرة أو تلك في وسط وجود له هيمنة ذكورية على مجمل الحياة ،
فهل ان شعر الأنثى في العالم والعالم العربي بالخصوص استطاع ان يخفف من الصراع الأزلي
.. الحقيقة المحلاة بالبحث تثبت بلا ادنى شك ان البحث الجمالي من قبل الشاعرات ،
قد خفف ذلك الصراع واوجد دالة التكافيء في الوعي والادراك بين الاثنين أي بين
الرجل والمرأة ..
من هذه
المعطيات كانت رحلتي محفوفة بمصاعب مشخصة ، بيد انها ممتعة مع اعمال حنان بديع
الشعرية ، وهي تركب ظهر اللغة الشعرية المرنة التي تحتمل اكثر من معنى ، بسبب
ازاحتها من مواقعها القاموسية الى مواقع جديدة ف(اللغة في النص الشعري الجديد لغة
متحفزة وموضوعة في صيغ الطوارئ وحافلة بالإنذار والتوقد ، فهي على هذا الصعيد
ثائرة ومستنفرة ومستفزة على الدوام ، قائمة على التحدي والنقض والمراوغة والإيهام
والتغميض ، لاتعتمد على الاستقرار ولا تتواطأ مع الممكن والمدرك والمألوف انها رفض
لكل أشكال التحديد والمعقول والمنطق والتناسب المقيد بين بداية اطلاق الدال ونهاية
استقرار المدلول) ص59ـ60 حيث هاجس الشاعرة ، هي الفكرة أي المفهوم ، لذا تقول :
على
قلب حبيبته يتدلل) اذن الالهام هي فكرة تخاطب بها الاخر الحبيب الذي سوف تحدد علاقتها به خلال
مشوارها الشعري التالي ، محاولة بذلك التخلص من الشعور بالهيمنة المسلطة اجتماعيا
عليها، فهي اكثر الاحيان تلجأ لذاتها تتفحص جوانبها باتجاه تحفيزها نحو المواجهة
حيث تقول : (
يوميا..أصحو على صوتي ينادينييعيد الضوء نحتيتمشيطي.. وتلوينييوميا..أمام صلاة مرآتيأتواطأ مع أنا ذاتيأخضب صفحاتها البيضاءأنقش لحنايدندن لي.. ويطوينييوميا..على سجيتي..أرتشف سواد قهوتي المرةأذوب والسكر في
الفناجين) وهنا دوران ذاتي لتفحص
المجهول وتفحص اللامعقولية التي تكتنف الحياة الاجتماعية وما يعتريها من غيوم
سوداء تعكر صفوها و قد ننحاز لمقولة الشعر الهام يعكس حالة الانفعال في دواخل
الشاعرة وهي تردد : (أي اسرار ؟أي أخبار تريد عن
قلبي.. وعني ؟أني شجرة أحزان تغنيعصفورة أعشاشها التمنيأنا الحلوى الملغمة
بالتجنيأنا الأنثى الوحيدة..أنا نالمكيدة..الدهاءمن خطاياك فضائليمن رذائلك غزل جدائليومن عريك الفراءأنا المدمنة على أفكاري
المشبوهةالمدينة الموبوءةأنا التفاحة المعلقة
على شجرة الاغواءالمطرودة من جنات
الاشتهاءأي أخبار تريد؟عن قلبي.. وعنيعن شعوذتي!) وهنا وضعت سيل من
الاسئلة المضمخة بالبحث عن الحلول ، فوضعت ذاتها المنفعلة كونها انثى جار عليها
الزمن وجارت عليها التقاليد الاجتماعية التي تنافي قوانين الطبيعة والخلق ، فهل
الانثى هي الاغواء فقط ام ان الرجل يشكل الطرف الاخر في المعادلة ، هذه الاشكالية هي قلق الشاعرة
حنان بديع الذي جعل منها تحفر في المفردات اللغوية المتحررة كي تجيب عن بعضا من
الاسئلة المتوالدة في ذهنها (أنا المدمنة على أفكاري المشبوهة) ، كون هذه الافكار
تبحث عن الحقيقة .... حيث جاءت قصيدة
(اظافر) حبلى بهذه الاسئلة .. (قل لي أحبك..ودعني لا أصدقها !)ثم تقول : (قلها مرة.. ولا تكررهااجعل من اللحظة تاريخاومن الأيام أحداثا
نعاصرهااسقني من كأسكرشفة أخرى.. واكسرهاأوحي بها..صدقا أو ربما كذبالا تبررهاوهل كنوز الحب الا
لنسرقها ؟هل قلاع العشق الا
لنغزوها ؟أو روما.. الا لنحرقهااقترفها يا ذئبي.. الآنولا تؤجلها)اصرخ بليل حرماني..ايقظ فًي ادمانيأيقظني.. وأيقظهاأغرس في عنقي اظفرهاودعني أشكرهادعني العن معاصيكثم أغفرهادعني أمجد حقيقتي
فيك.. ولا أصدقها) فهذا التأرجح لكلمة
(احبك) اظهر موقف الشاعرة من الحياة والحب ومن الرجل فكلمة احبك على المحك بين الصدق والكذب وهذه المسؤولية تقع على الرجل
مباشرة ، كون الاعراف الاجتماعية اخذت من المرأة واعطت للرجل اكثر مما بستحق ،
وكان موقف المرأة هنا ضعيفا لولا قدرة الشاعرة في المناورة مما يجعلنا نصدقها هي
ونكذبه هو وذلك بدلالة ، انه في مغامراته يبدو ذئبا تقوده رغباته .. ثم تبدأ
بعتابه وتحفيزه بقولها : (أي قطار بارد مر بناأوصلني ..وما أوصلكعن ماذا أخبرك ؟عن قصيدتي الحلوة ؟منذ عامين ..لم أحرك في فنجان قهوتي
سكركلم أدخل بعباءات حروفي
حرملكلم يرن خلخال قلبي مرة
..ومرة لم أذكركثم هل .. أخبرك !كم عشيقا دق باب قلبيكم رفيقا أزهر هذا
العام بدربيكم نجما أضاء هذا
الزمان ثم هلكما الداعي لأقول ..أو لأسمعك ..لم تكن في حقائب سفري
أبدا) فاول وهلة بدأت بالعتاب
بعدها تصاعد الى انفعال ، والشاعرة هنا تحاول اظهار ضعف الرجل وهي تقصد رجل معين
وليس كل الرجال ، ومن خلال ضعفه تحفزه باصطحاب عشيق غيره .. وهو عزف لاثارته ، كي
يكون في ميزان وفائها وصدقها والا لماذا هذا الغياب عنها؟ وهي في ميزان الطبيعة
البشرية تحمل نفس المشاعر والاحاسيس ومن هنا تخاطبه : (افعل ما شئتلتفقدني بعض صوابياعزف على الوتر ..العب بالبيضة والحجر ..رش الملح على جرح عتابيوتلذذ بغيابي) وهذا خطاب اجتماعي
مباشر يمثل لوحة احتجاجية ضد ماهو محرم على المرأة ومحلل على الرجل ، ورغم ان
الشاعرة قد امتلكت الملكة اللغوية الشعرية المدهشة والتي جاءت بشفافية ورقة ، حتى
وهي في اوج انفعالاتها وكل هذا يمثل رفضا لحالة الاستلاب والهيمنة ، غير ان
اشعارها تحمل روح السهل الممتنع وتتواصل مع الرسالة التي تود ايصالها للقاريء ،
وكما يبدو انها باحثة عن الحقيقة ، لذا تصرح تارة بكل وضوح عن النقائض ، وتخفي
تارة اخرى وتتخفى بين الكلمات والجمل .. (أن تبقى
تـدور ..في أفلاك غروريوأن أبقى حرة ..) هذا الدوران يعكس حيرتها في اختبارات الحب .. (أحبك حبيبيوأعشق أن اترك في كل زاوية أثريفعد معي ..) وكأنها تحاول تدجين هذا الرجل الذي يقسو على
الانوثة ، رغم انه يقدسها ويكون اضعف ارادة امام هذه الانوثة .. فهي تردد : (وتذكرني في الفكرعيناك حبيبي
مستعمرةوصدرك محتلا بندى أمريأحبك ..أحبكوأعشق أن أعيش فيك
العمرعمرين في عمري) هكذا تريده مبعثا للحب ومنبعا للصدق ، لتهديه كل
عمرها وتفنى فيه ، ولكن بشرط فهم الصورة التي تحاول الشاعرة رسمها بخطوط الصدق
والمحبة ودفء الحياة .. (لست معي..لكني أراك في زوايا الأمكنةلست لي ..لكني على غياب حضورك مدمنة) اذن صدقها هذا تريده ان يكون لباسا لهذا الحبيب
الذي وصفته سابقا بالذئب والان تحاول ترويضه وتدجينه من اجل ان يحمل تاج ملوكية
الحب الحقيقي فهي تصرح بانها: (تعبت من تعبيتعبت من شغبيتعبت من الركض على أشواك انتظاراتي حافيةتعبت من الكذب ..تعبت من الادعاء) هكذا هي منفعلة وتطلب الحياة المثالية التي
يكتنفها جمال الصدق بعيدا عن صفات القبح كالكذب والرياء والادعاء وتصل بها حالة
الانفعال الى الصراخ من اجل حب سكن اعماقها النقية الخصبة بماهو حب صادق مثالي .. (صرخت ..ولم يكن بإمكاني سماعيوأمام التحدي الكبيرأمام مرآة ضميري ..خلعت قناعيوكتبت .. " أني أحبك "أحبك .. دون اقتناعي) والمهم عندها هو ان تعلن حبها حتى (دون
اقتناعها) ، ليكون الق القصيدة وخبزها ومائها ، ومثلما سكن قلبها الحب سكنت
القصيدة خواطرها واصبحت الترجمان الذي يبين
منظومة افكارها في خلق حياة كأطار لللحب خالية من الرياء والادعاء حيث تقول
: (على الرغم مني ..يلهث خلف خطوتي العرجاء ظني ..يراودني بأني ...(أحبك أنت ...!) (وعلى الرغم مني ..أمارس خبثي على براءة الأفكارأمارس أمومتي على طفولة الأشعارأقايض رغوة
الماء بالنارأطارد أسراب الدقائق ..وتطاردني .. شهوة الانتظارعلى الرغم مني ..ألوك وهميلأخرج من بطن حقيقتي بنهميأنقش الحرف على بياض الشوقعلى جلد الخوف ..)وهنا الشاعرة كشفت عن حقيقة انسانيتها وما يخالط
افكارها الصادقة بالظنون كونها انسانة تحمل داخلها اوهام الوصول للمثالية والفردوس
المفقود مدفوعة بشهوة الانتظار بيد انها تقول :( أمارس أمومتي على طفولة الأشعار)
، تقصد ان الطفولة تمثل البراءة وبياض اوراقها وهي تدلق عليها اشعار هي تعبيرات عن
ارهاصات الحياة وشغف الجمال .. وتترك سلسلة من التحذيرات : (يا صديقي لا تعجب من كلماتي ولا تحتارفأنا النقيضان معاأنا الجنة .. و النـارأنا امرأة كحيلة العين .. وحشية الحروفوأحيانا تجدني امرأة الانكسارنعم أنا من تغفو مع غروب الشمس ..وأنا من تسهر الليل مع جيتار . .لا تحاول أن تبحر في محيط امرأةحين تصل إلى شواطئها ..حين ترسو إلى موانئها .. ينتهي المشـوار) وهذه التحذيرات حملت
التناقض الذي اقرته الشاعرة فهي ليست ملاك انما انسانة تبحث في مساحات الجمال (وأنا من
تسهر الليل مع جيتار ) و .. (..انا امرأة أعشق ذاتي ..أنا الأنوثة والرجولة معا ..أنا كل نساء الدنيا ..الأشرار منهن والأخيارهنا امرأة على وسادتي ..تارة تحلم .. وتارة تدندن الشعر) اذن هي امرأة تحمل كل هذا التناقض وتعشق ذاتها
من اجل احترام قيم انسانية تبحث عنها الشاعرة في مجمل قصائدها ..( أنا امرأة
تحمل إليك خفايا وأسرار..) وتبقى هكذا الشاعرة حنان بديع تبحث دون كلل وتحلم
بالمرأة المثالية والرجل المثالي والحياة الهانئة البعيدة عن الرياء فــ (كلما طريقي إليك تَعثٌرأحببتك أكثر وأكثروكلما عقلي معك تحيٌرصار ملحك عـذبا ..ومرارك سُكٌـربعيداحين تكون
أحبٌكوقريبا..
أحبك اكثـر) فهي مسكونة بالحب والجمال ولكنها بالمقابل
مسكونة بالبحث عن كمون الحقيقة المجهولة ..(كتبت من الكلمات الكثيروما زالت النقاط ..بين السطور تستجيرما زلت أبحث في قدريعن وجه المصيرما زلت أبحث لدولتي ..عن فارسها الأميرعن رجل عبقري ..بقلب طفل صغيرما زلت ابحث عن رجل ..خطيـر .. خطيـر) وهكذا كلما توغلنا في قراءاتنا المتعددة لاشعار
حنان بديع تكشفت لنا اسرار واسرار كلها تصب في مجرى واحد وهو ان الانسان الشاعر
يبحث عن النقاء ، ليرضي فضولية هذا الحب المتصاعد في داخله رافضا كل الكره والقبح
والهيمنة وهي رسالة حنان بديع الشعرية للعالم وعذرا ان لم استوفي كل المعاني
الراقية التي ترقرقت في ساقية الكلمات الشفافة التي حملت اكثر من ايحاء ومدلول
وبقيت تتخفى مع الشاعرة لتكون كتومة على مشاعرها واحاسيسها الرقيقة .. / كتاب (عضوية الاداة الشعرية) أ.د.محمد صابر
عبيد/سلسلة 14 تصدر عن دار جريدة الصباح العراقية ص59ـ60 /الاعمال الشعرية الكاملة من 1999 الى 2009 م للشاعرة حنان بديع