بسم الله الرحمن الرحيم
الحروف المقطعة في القرآن الكريم
يوجد في القرآن الكريم تسع وعشرون سورة تبدأ بحروف مقطعة(1)، وهذه الحروف جاءت على شكل حروف هجائية مفردة أو شبه مفردة، وهي عند التحليل ترجع إلى (أ، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ل، م، ن، ه، ي)، ويجمعها عبارة (صراط علي حق نمسكه). وهي تقرأ حرفاً حرفاً بصورة متقطعة، ولذلك سميت بالحروف المقطعة.
وتصنف الحروف المقطعة إلى ذات الحرف الواحد (ص، ق، ن). وذات الحرفين (طه،طس، يس، حم) وذات الثلاثة أحرف (الم، الر، طسم) وذات الأربعة أحرف (المص، المر) وذات الخمسة أحرف (كهيعص، حم، عسق) وتسمى السور المفتتحة ب(طسم) و(طس) بالطواسيم أو الطواسين، والسور المفتتحة ب(حم) بالحواميم. وتسم بعض السور بالميمات، وبعضها الآخر بالراءات. والملاحظ أن عدد الحروف المقطعة وهو (29) يساوي عدد الحروف الهجائية في اللغة العربية وبعد حذف المكرر منها يبقى (14) حرفاً، وهي تمثل نصف عدد الحروف الهجائية العربية.
وقد عني بعض القدماء بإفراد مؤلف للبحث في هذه الحروف، منها (رسالة في أسرار الحروف التي في أوائل السور القرآنية) لابن سينا، و(الحروف المقطعة في أوائل السور) لأبي سعيد الخادمي، وغيرهما.
الأقوال في تفسير الحروف المقطعة
وقد تناولها المفسرون قديماً وحديثاً بالبحث وذكروا لبيان المراد منها عدة تفاسير، منهم الشيخ الطوسي في تفسيره،والرازي في تفسيره الكبير حيث عد منها واحداً وعشرين تفسيراً.
ويمكن إجمال الموقف العام من تفسير هذه الحروف في اتجاهين:
الاتجاه الأول: يرى أنها من سرِّ اللَّه التي استأثر سبحانه بعلمها، وهذا المعنى روي عن بعض الصحابة والتابعين، كما يوجد في بعض روايات أهل البيت (ع).
الاتجاه الثاني: يرى أن اللَّه تعالى وصف القرآن بأنه \"تبيان لكل شيء\"، وهذه الصفة لا تتفق والخفاء والاستئثار، فلا يمكن إلا أن يكون مفهوماً وواضحاً للناس. نسب هذا الاتجاه إلى المتكلمين من علماء الإسلام. وهذا الاتجاه معني بإعطاء تفسير للحروف المقطعة، والكشف عن مضامينها، دون الاتجاه الأول.
يقول العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي ما نصه: ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراءات والطواسين والحواميم وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور. ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله: )تنزيل الكتاب من اللَّه( أو ما هو في معناه، وما في مفتتح الراءات من قوله: )تلك آيات الكتاب( أو ما هو في معناه، ونظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين، وما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه. ويمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذه الحروف المقطعة وبين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطاً خاصاً، ويؤيد ذلك ما نجد من أن سورة الأعراف المصدرة ب\"المص\" في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات و\"ص\"، وكذلك سورة الرعد المصدرة ب\"المر\" في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات والراءات.
وتوجد عدة تفاسير للحروف المقطعة أغلبها تخرصات ورجم بالغيب، وفيما يلي عرض لأهمها، مع ذكر مختار أهل التحقيق في شأنها:
الأول: أن هذه الحروف ترمز إلى بعض أسماء اللَّه وصفاته وأفعاله. روي في ذلك عن ابن عباس قوله: (الم) (أنا اللَّه أعلم)، و(ألمر) (أنا اللَّه أرى)(7)، وغير ذلك. وقال في (كهيعص): إنّه ثناء من اللَّه تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء يدل على كونه هادياً، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق.
الثاني: أنها أسماء للقرآن الكريم كالكتاب والفرقان والذكر. روي في ذلك عن بعض التابعين كقتادة ومجاهد وابن جريج والكلبي والسدي .
الثالث: أن هذه الحروف مأخوذة من أسماء لها دلالة معينة بحسب الواقع، لكنها مجهولة لنا معلومة للنبي (ص). روي في ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وجماعة من الصحابة. وقريب منه ما ذهب إليه الطبري وابن أنس.
الرابع: أنها أسماء للسور التي جاءت فيها، فإن (الم) اسم لسورة البقرة، و(كهيعص) اسم لسورة مريم، و(ن) اسم لسورة القلم وهكذا... اختار هذا الرأي أكثر المتكلمين وجماعة من اللغويين واستحسنه كل من الشيخ الطوسي ، والشيخ محمد عبده ، والفخر الرازي .
الخامس: إن هذه الحروف إنما جيء بها ليفتتح بها القرآن الكريم وليعلم بها ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها. اختار هذا الرأي البلخي، وروي عن مجاهد أيضاً.
السادس: إنها أسماء للحروف الهجائية المعروفة، وإنما جيء بها تنبيهاً للناس على أن القرآن الكريم الذي عجزوا عن مباراته والإتيان بمثله ليس مؤلفاً إلا من هذه الحروف ومركباً منها فلم يكن التحدي به لأنه يحتوي على مادة غريبة عنهم وإنما كان بشيء مركب من هذه الحروف التي يتكلمون ويتحادثون بها، وقد عجز عن الإتيان بمثله أهل الفصاحة والبلاغة. ذهب المبرد وجمع كبير من المحققين إلى هذا المذهب.
السابع: إن هذه الحروف إنما جاءت في أول السور ليفتح القرآن أسماع المشركين ويثير انتباههم ويجعلهم يستمعون إلى القرآن بعدما تواصوا بعدم الإنصات إليه، على ما جاء في قوله تعالى على لسانهم: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) (فصلت: 26).
الثامن: إنها حروف من حساب الجمل. لأن طريقة الحساب الأبجدي المعروفة الآن كانت متداولة بين أهل الكتاب آنذاك. فهذه الحروف تعبر عن آجال أقوام معينين. فكان أبو ياسر بن اخطب اليهودي على ما رواه ابن عباس يحاول أن يتعرف على أجل الأمة الإسلامية وعمرها من خلال هذه الحروف.
التاسع: إن ذكر هذه الحروف في القرآن الكريم يدل على ناحية إعجازية تشبه دلالة بقية الآيات القرآنية. وذلك لأن النطق بهذه الحروف وإن كان متيسراً بالنسبة إلى كل من يتكلم العربية... ولكن أسماءها لم تكن تتيسر إلا للمتعلم من العرب، ولما كان النبي (ص) أمياً كما يعرفه بذلك معاصروه فقدرته على معرفة أسمائها قرينة على تلقيه ذلك من قبل الغيب. ولعل هذا هو السبب في تقديم ذكرها على السورة كلها.
وهناك وجوه أخرى ذكروها لا طائل من التعرض لها، كالقول بأنها حروف لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم اللَّه الأعظم. والقول بأنها أقسام أقسم اللَّه بها على أنها من أسمائه أو أنها من الحروف المعجمية التي تألف منها القرآن.
مختار أهل التحقيق
اختار جمع كبير من المحقّقين والمفسرين الوجه السادس، وهو أنّ القرآن الكريم تحدّى ببلاغته المشركين، ومن هذا ما جاء في أوائل السور من الحروف للإشارة إلى أنّ هذا الكتاب مؤلف من هذه الحروف، وهذه الحروف هي التي يلهجون بها صباحاً ومساءً فإن كانوا يزعمون أنّه من صنع النبي (ص) فليصنعوا مثله، ولن يقدروا على ذلك. وهذا الوجه هو المروي عن أئمّة أهل البيت )عليهم السلام(: روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكري (ع)، أنه قال: \"كذبت قريش واليهود بالقرآن، وقالوا: هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللَّه: )الم ذلك الكتاب( أي يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلته إليك هو الحروف المقطعة التي منها )الم( وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله: )لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً(\" )الإسراء: 16).
وفي رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنه قال: \"إن اللَّه تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب، ثم قال: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً(الإسراء: 17).
ومما يؤيد ذلك أن أكثر السور التي صدرت بالحروف المقطعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم، من قبيل قوله تعالى: )الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين( )البقرة: 2 *1). )الم... نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل ( )آل عمران: 3 1).
هذا، ومما يجدر ذكره هنا، أن الشهيد السيد محمد باقر الصدر حدد موقفه من هذه المذاهب والآراء انطلاقاً من بعض الظواهر العامة التي تقول بعدم ورود تفسير واضح للفواتح عن الرسول وسكوت الصحابة عن السؤال عنها، وعدم تعارف استعمال العرب لهذا الأسلوب في كلامهم.
وهذا يكشف عن أن أمر تلك الحروف إما أن يكون واضحاً جلياً مما أدى إلى سكوت النبي والصحابة عنه، أو أنها من المتشابهات التي يحسن السكوت عندها، أو أنه نتيجة أن الغاية من استعمالها كانت جارية على نهج أن هذه الحروف جاءت ليفتح القرآن أسماع المشركين الذين تواصوا بعدم الإنصات إليه كما جاء في قوله تعالى: )لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه( فكانت هذه الحروف بطريقة عرضها وغموضها سبباً للفت أنظار المشركين إلى استماع القرآن الكريم، فإنه المذهب الوحيد الذي شرح القضية بشكل ينسجم مع هذه الظواهر ولا يستلزم السؤال والاستفسار.
(1) وهي: (الم): البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة. (المص): الأعراف. (الر): يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر. (المر): الرعد. (كهيعص): مريم. (طه): طه. (طسم): الشعراء، القصص. (طس): النمل. (يس): يس. (ص): ص. (حم): غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف. (حم، عسق): الشورى. (ق): ق. (ن): القلم.