الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين …أما بعد
فإن الله تبارك وتعالى قد حدد مواسم للخير ومن ضمن هذه المواسم شهر الخير والبركة, شهر العتق من النار … نعم هو شهر الله المبارك شهر رمضان الذي اختص الله بثوابه حيث قال ” “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” [رواه الإمام البخاري في صحيحه]. فهذا الحديث فيه فضيلة الصيام ومزيته من بين سائر الأعمال، وأن الله اختصه لنفسه من بين أعمال العبد.
فيجب على المرء أن يحاسب نفسه ويعيد النظر فيها ويهذبها خير تهذيب فمدرسة رمضان مدرسة تربوية عظيمة تربي الإنسان على تحمل الصعاب والرحمة والرأفة للخلق وتربي كذلك على العدل بين الناس وذلك بإيجاب الصيام على الجميع من دون تفرقة, وكما لا يخفى على القارئ أنه من حكم الصيام الرحمة والرفق بالفقراء وذلك لما يشعر به المرء من الجوع والعطش وحتى يعرف الناس ما يشعر به إخوانهم الفقراء من جوع طوال العام .
إذا كيف نستفيد من مدرسة رمضان ؟
يمكننا الاستفادة من مدرسة رمضان وذلك من خلال التالي :-
- 1. الإكثار من تلاوة القران الكريم
فشهر رمضان شهر القرآن .. قال جل وعلا: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة:185)، قال الحافظ ابن كثير: “وكان ذلك -أي إنزال القرآن- في شهر رمضان في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، وقال سبحانه :{إنا أنزلناه في ليلة مباركة}، ثم نزل بعده مفرقاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وكانجبريل عليه السلام يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيدارسه القرآن كل ليلة في رمضان -كما في “الصحيحين”-، وكان يعارضه القرآن في كل عام مرة، وفي العام الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل القرآن مرتين.
ومن المهم التنبيه عليه أن قراءة القران وختمة فقط ليس مراد الشارع بل تدبره والعمل به قال تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (محمد:24)
الإكثار من قيام الليل
قيام الليل هو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، وعمل الفائزين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، ويتوجهون إلى خالقهم وبارئهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فنفوسهم قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القربات، وترغب وتتضرع إلى عظيم العطايا والهبات.
قال تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]. قال مجاهد والحسن: يعني قيام الليل. وقال ابن كثير في تفسيره: ( يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة ). وقال عبد الحق الأشبيلي: ( أي تنبو جنوبهم عن الفرش، فلا تستقر عليها، ولا تثبت فيها لخوف الوعيد، ورجاء الموعود ). وقد ذكر الله عز وجل المتهجدين فقال عنهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات:18،17] قال الحسن: كابدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار. وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9]. أي: هل يستوي من هذه صفته مع من نام ليله غير عالم بوعد ربه ولا بوعيده. إخواني:
يا رجال الليل جدوا *** ربّ داع لا يُردُ
قيام الليل في حياة السلف
قال الحسن البصري: ( لم أجد شيئاً من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل ). وقال أبو عثمان النهدي: ( تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا ).
وكان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى، ثم يقول: اللهم إن جهنم لا تدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه.
وكان طاوس يثب من على فراشه، ثم يتطهر ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين !!
وكان زمعة العابد يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته: يا أيها الركب المعرِّسون، أكُل هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون !! فيسمع من هاهنا باكٍ، ومن هاهنا داع، ومن هاهنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى: عند الصباح يحمد القوم السرى !!
الأسباب الميسِّرة لقيام الليل
ذكر أبو حامد الغزالي أسباباً ظاهرة وأخرى باطنة ميسرة لقيام الليل: فأما الأسباب الظاهرة فأربعة أمور: الأول: ألا يكثر الأكل فيكثر الشرب، فيغلبه النوم، ويثقل عليه القيام. الثاني: ألا يتعب نفسه بالنهار بما لا فائدة فيه. الثالث: ألا يترك القيلولة بالنهار فإنها تعين على القيام. الرابع: ألا يرتكب الأوزار بالنهار فيحرم القيام بالليل.
وأما الأسباب الباطنة فأربعة أمور: الأول: سلامة القلب عن الحقد على المسلمين، وعن البدع وعن فضول الدنيا. الثاني: خوف غالب يلزم القلب مع قصر الأمل. الثالث: أن يعرف فضل قيام الليل. الرابع: وهو أشرف البواعث: الحب لله، وقوة الإيمان بأنه في قيامه لا يتكلم بحرف إلا وهو مناج ربه.
الإكثار من الصدقة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، كان أجود بالخير من الريح المرسلة .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة صدقة في رمضان ) [أخرجه الترمذي عن أنس] .
روى زيد بن أسلم عن أبيه ، قال سمعت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالاً عندي ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، قال فجئت بنصف مالي ـ قال : فقال لي رسول الله : ( ما أبقيت لأهلك ) . قال : فقلت مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أبقيت لأهلك ) قال أبقيت لهم الله ورسوله ، قلت : لا أسابقك إلى شيء أبداً .
فيا أخي :
للصدقة في رمضان مزية وخصوصية فبادر إليها واحرص على أدائها بحسب حالك ولها صور كثيرة منها :
أ ـ إطعام الطعام :
قال الله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرةً وسروراً وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً ) [الإنسان 8 ـ 12] .
فقد كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام ويقدمونه على كثير من العبادات . سواءً كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخ صالح ، فلا يشترط في المطعم الفقر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ) [رواه الترمذي بسند حسن] .
وقد قال بعض السلف : لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل !!
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم ، منهم عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وداود الطائي ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل ، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين .
وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم ويروحهم .. منهم الحسن وابن المبارك .
قال أبو السوار العدوي : كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده ، إن وجد من يأكل معه أكل وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه .
وعبادة إطعام الطعام ، ينشأ عنها عبادات كثيرة منها التودد والتحبب إلى إخوانك الذين أطعمتهم فيكون ذلك سبباً في دخول الجنة : ( لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ) كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين واحتساب الأجر في معونتهم على الطاعات التي تقووا عليها بطعامك
ب ـ تفطير الصائمين :
قال صلى الله عليه وسلم : ( من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ) أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني . وفي حديث سلمان : ( ومن فطر فيه صائماً كان مغفرةً لذنوبه وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا : يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ بعدها ، حتى يدخل الجنة ) .
هذا ونسأل الله أن يجعلنا من الصائمين القائمين ويجعلنا ربانيين لا رمضانيين …