حديثنا اليوم عن آية عظيمة من كتاب الله بل هي أعظم آية في كتاب الله.
آية كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها كثيراً في مواضع كثيرة فكان يقرؤها في كل صباح ومساء وفي دبر كل صلاة وعند النوم وعندما يريد أن يرقي نفسه أو يرقي غيره صلى الله عليه وسلم.
إنها آية الكرسي...
لقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبي بن كعب رضي الله عنه – وأُبيّ هو أقرأ هذه الأمة وأشهر الصحابة في علم القراءات - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعظم آية في كتاب الله؟ فقال أُبي: الله ورسوله أعلم. فسأله مرة ثانية: ما أعظم آية في كتاب الله؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فحينما سأله الثالثة قال من تلقاء نفسه: ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾؛ فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدره وقال له: ((ليهنك العلم أبا المنذر)).
هنأه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العلم الذي حواه صدره، وهذا الجواب على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أجاب من نفسه حسب علمه الواسع بكتاب الله، فكان جوابه موفقاً ومسدداً.
هذه الآية العظيمة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها بعد كل صلاة، فينبغي لنا أن نستنَّ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنحافظ على قراءتها بعد كل صلاة قراءة صحيحة، بعلم معانيها وفهم ألفاظها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)).
عباد الله:
إن هذه الآية شفاء كاف من كل داء، وهي حصن حصين من كل شر، فهي حصن من الشيطان وحصن من السحر وحصن من المس والعين، فمن حافظ عليها حفظته بإذن الله، ولا يكن حالنا كحال من لا يقرأها ولا يحفظها ولا يتعلم معانيها، حتى إذا مسه الضر أو أصابه الداء قرأها وأكثر من قراءتها.
إنها آية جعلها الله حرزاً من الشياطين والجن والسحرة والمشعوذين، فمن قرأها حين يصبح لا يزال عليه من الله حافظ حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي لا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح.
كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها عند النوم، يدفع بها الشيطان.
وتعلمون قصة الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه عندما قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام. فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة. قال: فتخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟)) قال قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدةً وعيالاً؛ فرحمته وخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيعود، فرصدته فجاء يحثوا من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟)) قلت: يا رسول الله، شكا حاجة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله. قال: ((أما إنه كذبك وسيعود))، فرصدته الثالثة فجاء يحثوا من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله. فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل أسيرك البارحة؟)) فقلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ((ما هي؟)) قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟)) قلت: لا. قال: ((ذاك شيطان)). والحديث رواه البخاري.
عباد الله:
إنها آية عظيمة حوت أسماء من أسماء الله، وبينت صفات من صفاته، وتحدثت عن عظمته وما له من سلطان على عباده وقدرة على مخلوقاته، وقد اشتملت على عشر جمل مستقلة، بدأها الله بلفظ الجلالة، أعرف المعارف، الاسم العلم الدال على الله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أي لا إله بحق إلا هو، ولا يستحق العبادة أحد إلا هو، وهذا هو معنى لا إلا الله. فالآلهة التي تعبد كثير؛ لكنها آلهة باطلة، لا تستحق العبادة، ولا تصلح أبداً أن تعبد؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا الله، فلا إله إلا هو ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾.
﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾: وصف الله نفسه بأنه حي، وحياة الله حياة أبدية سرمدية، ليس لها بداية وليس لها نهاية، فهو الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، بعكس حياة المخلوقين؛ فإنه يسبقها عدم، ويلحقها الفناء والموت، ويعتريها الخلل والضعف والمرض، أما حياة الخالق جل جلاله وعز كماله فلا يسبقها ابتداء ولا يلحقها فناء، ولا يعترضها خلل ولا ضعف: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾.
القيوم: أي القائم بنفسه، الذي لا يحتاج إلى غيره، ولا قوام للموجودات بدونه، فهي مفتقرة إليه وهو غني عنها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ﴾، فهو سبحانه وتعالى قيوم، أي قائم بنفسه، مقيم لغيره، لا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه.
وهذان الاسمان "الحي القيوم" هما اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب.
تقول أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول في هاتين الآيتين: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ و﴿ الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ ((إن فيهما اسم الله الأعظم)).
ويقول أبو أمامة رضي الله عنه: "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورةِ البقرة، وآل عمران، وطه))، قال هشام: أما البقرة فـ ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾، وفي آل عمران: ﴿ الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾، وفي طه: ﴿ وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾" .
﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾، والسِّنة هي النعاس، وهو مقدمة النوم، ولهذا قال تعالى {ولا نوم} لأنه أقوى من النعاس، فإذا كان لا يأخذه النعاس فمن باب أولى أن لا يأخذه النوم؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام)).
فالله جل جلاله لا تعتريه الغفلة ولا النعاس ولا الذهول ولا النوم، بل هو شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: الكل عبيده، وكل ما في السموات والأرض تحت ملكه وقهره وسلطانه؛ فكل شيء في السماء أو في الأرض هو له سبحانه وتعالى؛ يقول الله تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾.
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾، فلا يشفع أحد لأحدٍ يوم القيامة إلا بعد أن يأذن الله له بالشفاعة، حتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا يشفع لأحد إلا بعد أن يأذن الله له، فيُقال له: "يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع".
فمن اتكل على الشفاعة، أو ظن أن أحداً سيشفع له يوم القيامة - فليعلم أن الشفاعة بيد الله، ولن يشفع أحد إلا بعد أن يأذن الله له بأن يشفَّع ويرضى عن المشفوع؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾.
الخطبة الثانية
والجملة السادسة في هذه الآية العظيمة هي قوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾؛ أي: يعلم ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ويعلم ما أمامهم وما خلفهم، فعلمه سبحانه محيط بكل شيء: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾، ويقول عن الملائكة: ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾.
﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾؛ أي: لا يطَّلع أحدٌ من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه، كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾.
﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾: الكرسي موضوع بين يدي العرش، وهو موضع قدمي الرب، كما قال عدد من المفسرين من الصحابة وغيرهم "هو موضع القدمين".
يقول الضحاك رحمه الله: "الكرسي هو الذي يوضع تحت العرش، يجعل الملوك عليه أقدامهم".
وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة – أي كخاتم في صحراء- وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة))؛ فسبحان الله رب العرش العظيم.
﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾؛ أي: لا يُعجزه ولا يثقله ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض، بل ذلك سهلٌ عليه يسيرٌ لديه، فلا يعزب عنه شيء، فكل الأشياء ذليلة حقيرة بين يديه، صغيرة متواضعة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة له، فلا يثقله حفظ السموات والأرض ومن فيهما وما بينهما.
﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾؛ أي: العالي فوق خلقه، الذي له علو المنزلة وعلو القهر والسلطان.
العظيم؛ أي: الكبير المتعال، الذي له العظمة؛ فلا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
هذه خلاصة وجيزة لهذه الآية العظيمة، فينبغي لنا أن نستحضر هذه المعاني العظيمة لهذه الآية الكريمة، عندما نقرأها في صلاتنا وبعد صلاتنا، وفي صباحنا ومسائنا وعند نومنا، ومن لم يحفظها منا فعليه أن يبادر ويسارع إلى حفظها؛ فهي أعظم آية في كتاب الله.