الدكتور محمود الحاج قاسم
في أعماق قلب كل مؤمن، حنين قديم متدفق، وشوق حار ملتهب، وحب أبدي خالد، ولهفة شديدة، وتطلع لرؤية بيت الله الحرام، وزيارة مثوى النور الإلهي، ومهبط الوحي الرباني، فهو مثابة الناس (أي المرجع والمآب الذي يثوبون إليه من كل جانب) وفيه الأمن والسكينة النفسية والاجتماعية، وفي جنباته وأفيائه وآفاقه آيات بينات، والناس قاطبة مدعوون لتدبرها، والإمعان في احتواء معانيها، والافادة من معالمها وشعائرها.
الحج قبل الإسلام :
إن للكثير من الأمم أنواع من الحج فعلى سبيل المثال ، يقوم أتباع بوذا كل عام بالحج إلى أربعة أماكن: مسقط رأس بوذا، وأرض السعادة العليا والأرض التي نزلت عليه البصيرة فيها، والمكان الذي أوصى بزيارته .وفي اليونان كانوا يقومون برحلة الحج كل أربع سنوات إلى معبد "زيوس" إله البرق، حتى الملحدين كان لهم حج كل عام إلى ضريح "لينين" في الساحة الحمراء في موسكو عاصمة الاتحاد السوفييتي السابق ، أما الحج في الديانة المسيحية فقد كان ولا يزال أمراً مهماً، حيث يقوم الحجاج كل عام برحلة إلى مركز الكنيسة الغربية في روما ، وكذلك الحج إلى مكان ولادة السيد المسيح في بيت لحم في فلسطين. وهنالك أنواع كثيرة للحج مثل حج بعض المسيحيين في إسبانيا إلى موقع ظهور العذراء في Santiago de Compostela . وبالطبع فإن كل هذه الأنواع عادة ما تكون مليئة بالطقوس الشركية، حيث يعتقدون أن البشر والملائكة والقديسين يمكن أن ينفعوا أو يرزقوا...
الحج في الإسلام :
هو تلك الرحلة الروحانية المقدسة إلى بيت الله الحرام – الكعبة المشرفة، حيث تشتاق نفوس المؤمنين إلى تلك البقعة المباركة التي فضّلها الله على جميع بقاع الأرض فقال: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} (آل عمران).
ورحلة الحج في الإسلام ببساطة وإيجاز هي عبارة عن مراحل:
تبدأ من الميقات حيث يلبس الحاج لباس الإحرام وينوي الحج،
الوصول إلى مكة المكرمة ليقبل الحجر الأسود ويطوف حول الكعبة سبعة أشواط
ثم يطوف بين الصفا والمروة سبعة أشواط،
ثم ينتقل إلى منى ليقضي يوم 8 ذي الحجة فيها،
ثم ينتقل إلى عرفات ليقف فيها يوم 9 ذي الحجة حتى غروب الشمس ويدعو الله،
ثم يعود إلى مزدلفة ليمضي فيها ليلته،
ثم يتوجه إلى منى حيث يرمي الحصى في 10 ذي الحجة
وينحر الأضاحي ويحلق الرأس،
ثم يرجع في نفس اليوم إلى الكعبة ليطوف حولها.
ثم يعود إلى منى ليرمي الجمرات،
ويقيم فيها ثلاثة أيام 11-12-13 ذي الحجة،
ثم يتوجه إلى الكعبة ليطوف حولها طواف الوداع ويشرب من ماء زمزم .
وللحج منافع كثيرة، ذكرها الله تعالى في قوله: { وأذّنْ في الناسِ بالحَجِ يأتوكَ رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فَجٍّ عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسمَ الله } فهو إضافة لكونه فريضة وشعيرة من شعائر الإسلام ، له فوائد عديدة هي :
أولاً : الفوائد النفسية للحج:
1 ـ الحج " فرمتة " للنفس البشرية :
يؤكد علماء البرمجة اللغوية العصبية أن الذي ينهك قوى الإنسان هو كثرة الهموم والمشاكل التي يتعرض لها في حياته، وأن أفضل طريقة لإعادة التوازن له هو أن يفرّغ هذه "الشحنات السلبية" المتراكمة بفعل الأحداث التي يمر بها. وعملية التفريغ هذه ضرورية ليتمكن الإنسان من العيش حياة أفضل وليستطيع استثمار طاقاته بشكل أفضل. ولذلك تجدهم كل عام يذهبون للسياحة والاصطياف ليفرغوا شيئاً من التراكمات السلبية ويستعيدوا نشاطهم وطاقتهم، ولكن إذا نظرنا للعالم الغربي فإننا نجد لديهم أكبر نسبة للاكتئاب على مستوى العالم، إذن هم يكتشفون العلاج ولكن لا يعرفون الطريق الصحيح لتطبيقه. والعجيب أن الإسلام ومنذ أربعة عشر قرناً أعطانا الطريق الصحيح لإعادة توازن الإنسان وتفريغ ما تراكم فيه من سلبيات .
إن رحلة الحج على ما فيها من مشقة وتعب وغربة وصعوبات، تعتبر حلم كل مؤمن لما يجده من الراحة النفسية الكبيرة بعد الحج. والغريب أننا إذا سألنا أي حاجّ قدم حديثاً من الأراضي المقدسة وقلنا له: ما رأيك بالعمل الذي قمتَ به، فسيقول على الفور: أتمنى أن أحج إلى بيت الله كل عام!! فما هو سرّ هذه الراحة النفسية التي يلمسها كل إنسان ذهب لأداء هذه الفريضة؟ إن الجواب بسيط، وهو أن هذه العبادة إذا أداها الإنسان بشكل صحيح فإنها تقوم بعملية "فرمتة" أو تفريغ الشحنات السلبية وإعادة شحن بالشحنات الإيجابية. وقد أجد في هذه الكلمة تعبيراً مفيداً لأن جهاز الكمبيوتر يحتاج إلى عملية "فرمتة" كل فترة وإلا فإنه سيتوقف عن العمل في نهاية الأمر. ومن عجائب ما وجدت في أحاديث النبي الكريم إشارة واضحة إلى هذا الأمر حيث يؤكد أن الحج يفرغ ما يحمله الإنسان من ذنوب وأخطاء، يقول عليه الصلاة والسلام: ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة ) رواه ابن حبان في صحيحه.
2 ـ طاقة من الحجر الأسود :
هنالك أمر غريب ولكنه مقبول علمياً اليوم في علم الطاقة، حيث نلاحظ أن لكل جسم هالة تنتشر حوله تحمل كمية من الطاقة. وإن الذي يقترب من الحجر الأسود ويلمسه ويقبّله يحسّ بنوع من أنواع الطاقة، وهذا يدل على خصوصية هذا الحجر المقدس وفائدة النظر إليه وتقبيله ولمسه، لأن ذلك يمدّنا بالطاقة، ولذلك فإن كل من يقبل هذا الحجر يشعر بنشاط وقوة غريبة . وربما يكون هذا هو السر في عمل النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، أنه كان يبدأ الطواف من قرب هذا الحجر بعد تقبيله ولمسه وينتهي إليه، وعملية اللمس هنا لها دلالات في علم الطاقة، حيث تعبر عن اكتساب كمية من الطاقة من هذا الحجر، والله تعالى أعلم.
3 ـ العلاج بالتأمل :
الوقوف في عرفات للتأمل والدعاء ومراجعة النفس من أهم أركان الحج.يعتبر العلاج بالتأمل أحد أهم أنواع العلاج بالطب البديل، ويعتبر العلماء أن التأمل يعالج اضطرابات القلق بشكل أساسي. إن التأمل هو إستراتيجية رائعة لتنظيم عمل الجسم والقضاء على مختلف الاضطرابات النفسية والعصبية .
إن رياضة التأمل تحسن القدرات العقلية وتكسب الجسم قدرة أفضل على النوم براحة تامة، ويزيد القدرة على الإبداع والقدرة على حل المشاكل، وزيادة النشاط العصبي للدماغ، كذلك فإن التأمل يزيد إفراز بعض المواد الكيميائية في الدماغ والتي تؤدي إلى إطالة العمر ، هنالك تمارين ينصح بها علماء اليوغا اليوم، تمزج بين المشي والتأمل، ويؤكدون أن التأمل مع المشي يساعد على تطوير الروح والنفس معاً، ويزيد بشكل كبير من نشاط الدماغ وزيادة البصيرة وزيادة التفكر في الأشياء من حولنا
.
4 ـ العلاج بالألوان:
النظر والتأمل في الكعبة المشرفة تمنح المؤمن طاقة إضافية بسبب الألوان المهيبة التي يراها، فإذا كان الأطباء يعالجون مرضاهم بالنظر إلى أشياء عادية مثل شجرة أو منظر أو لون محدد، فكيف بمن ينظر إلى بيت الله؟ تعتبر الألوان وسيلة مهمة في الطب البديل، وإن الذي يذهب في رحلة الحج ويمتع نظره بتأمل الكعبة المشرفة سوف يجد قوة ونشاطاً وسعادة في نفسه، فاللون الأسود الذي يتجلى على الكعبة وما كُتب عليها من آيات بالذهب يعطي إحساساً بالحيوية والنشاط، بل يساعد على شفاء الكثير من الأمراض!
وقد يعجب القارئ الكريم من هذا الأمر ولكنني وجدته صحيحاً مئة بالمئة، فأحد أساليب العلاج بالألوان المتبعة في الطب البديل أن تجلس وتتأمل في لون ما ترتاح له، وتتنفس بعمق وتتخيل نفسك أنك ترمي بكل السلبيات خارجاً، وتتأمل أنك تستمد الطاقة من هذا اللون. إن تكرار هذه العملية يؤدي إلى طرد الطاقة السلبية من الجسم والحصول على طاقة إيجابية تحس بها على الفور . والسؤال: أليس هذا ما نمارسه في عبادة الحج عندما نجلس أمام الكعبة ونتأملها بألوانها الزاهية ونتخيل رحمة الله ومغفرته للذنوب، ونستيقن بأننا سنعود كما ولدتنا أمهاتنا أنقياء من الذنوب والمعاصي، وسنعود بفضل كبير من الله تعالى، أليس هذا ما يمارسه كل حاجّ خلال رحلة حجّه كاملة؟
5 ـ تخيل الهدف الذي يريده الحاج في الذهن يساعده على تحقيقه :
لو درسنا كتب البرمجة اللغوية العصبية ورأينا الأساليب العملية التي ينصح بها المعالجون لرأينا تفسيراً علمياً لبعض أسرار مناسك الحج.
فلو رجعنا إلى الكتب الأكثر مبيعاً في العالم نجد كتاب "مئة طريقة لتحفيز نفسك"، للمؤلف ستيف تشاندلر، يؤكد مؤلف هذا الكتاب على أهمية أن تتخيل في ذهنك الهدف الذي تريد تحقيقه دائماً لأن ذلك يساعدك على تحقيقه، وإذا ما فعلت ذلك بإتقان فإنك ستشعر وكأنك ولدت من جديد.وما نقوم به في الحج من رمي لإبليس هو تطبيق عملي لقول تشاندلر، فعندما نرمي المنطقة التي تعبر عن إبليس، وبالطبع إبليس ليس موجوداً في هذه المنطقة فقط إنما هي رمز لذلك، فإننا عند ذلك نتخيل أن إبليس موجود ونقوم برميه بالحصى، ونتصور مع كل حصاة نرميه بها، أننا في حالة حرب معه وأنه عدو لنا وأننا يجب أن نحذر منه ومن وساوسه. وبالفعل بعد ممارسة هذه العبادة يحس الإنسان وكأنه وُلد من جديد، بل إن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) [متفق عليه]. إنها بالفعل ولادة من جديد يحس بها كل من أدى عبادة الحج بإخلاص.
6 ـ الحج طاقة روحية وطريق إلى السعادة :
إن زيارة المسلم للبيت الحرام ومسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولمنازل الوحي وأماكن البطولات الإسلامية تمد المسلم بطاقة روحية عظيمة تزيل عنه كروب الحياة وهمومها وتغمره بشعور عظيم من الأمن والطمأنينة والسعادة . لقد قام علماء النفس بالعديد من التجارب بهدف اختبار السعادة عند أشخاص مختلفين، فوجدوا أن السعادة الكبرى لا تتحقق بالمال أو النساء أو الجمال أو غير ذلك من زينة الدنيا، إنما وجدوا أن السعادة تكون أكبر ما يمكن عندما يسعى إنسان نحو هدف ويحاول تحقيقه ثم يتحقق هذا الهدف أخيراً. والمؤمن في تلهف دائم لزيارة بيت الله ومسجد رسوله، وتجد في داخل كل مؤمن حنيناً لهذا البيت العتيق، ورحلة الحج هي تحقيق لهذا الحلم أو الطموح، ولذلك فإنه يعطي المؤمن سعادة كبرى لا يمكن أن يشعر بها غيره.
7 ـ الصبر وضبط النفس والتحكم في شهواتها وإندفاعاتها :
إن رحلة الحج تربي في المسلم، بما فيها من متاعب وصعاب وإجهاد، فضيلة الصبر وتمرنه على تحمل كل المضايقات وكيفية الاعتماد على نفسه لحل مشكلاته، فضلا عن ضبط نفسه وسلوكياته وصرفه عن الانفعالات المرفوضة بما فيها من عصبية وسباب.
وهنالك عادات نادراً ما نلتفت إليها، مثل الجدال، فهذه العادة السيئة كثيراً ما تورث الخصام مع الآخرين وتسبب ضياع الوقت والجهد، إلا المجادلة بالتي هي أحسن، وهذه قليلة في عصرنا هذا. ومن أسس الحج الصحيح تجنب الجدال والمناقشات العقيمة. إذن الحج هو تمرين على رياضة الامتناع عن الجدال ومعاملة الناس بالحسنى ، يقول تعالى:
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ...(197)}(البقرة). ولو تأملنا نصائح علماء البرمجة اللغوية العصبية نجدهم يؤكدون على ضرورة تمرين النفس على قلة الجدال، فهذا هو الدكتور ريتشارد كارلسون يقول: "لا تجادل فإن الجدال يسبب الخصام مع الآخرين" . وهذا يدل على أن النتائج التي يحصل عليها علماء الغرب اليوم هي ذاتها التي وجّهنا الإسلام إليها!
8 ـ تحقيق الصفاء النفسي والتوازن المزاجي :
يؤكد د. أحمد عكاشة استشاري علم النفس أن أفضل ما يعود به الحاج من رحلته المباركة هو حالة الصفاء النفسي والتوازن المزاجي التي سيطرت عليه خلال رحلته منذ خروجه من بيته وحتى عودته، فالإنسان في هذه الرحلة يتخلص من كل همومه ومشكلاته ومشاغله حتى ولو كان هذا التخلص مؤقتا خلال الرحلة فقط، وهذا يساعد الإنسان على أن يعيش حالة نادرة من الصفاء والراحة النفسية تريحه من كثير من الهموم والمتاعب النفسية التي تسببها ضغوط الحياة المستمرة.
9 ـ جهاد النفس وتقوية الإرادة :
فالحج على هذا الأساس هو جهاد للنفس يجتهد فيه الإنسان أن يهذب نفسه ، عن الحسن إبن على ( رضي الله عنهما ) : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني جبان وإني ضعيف ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( هلم إلى جهاد لا شوكة فيه : الحج ) أخرجه الطبراني في الكبير الجزء الثالث ص 147 .
وتعتبر تجربة الحج أفضل طريقة عملية لتقوية إرادة المؤمن، وإن الذي قام بتجربة الحج يلاحظ أنه عاد أقوى مما ذهب، ولو تأملنا أقوال علماء البرمجة نجدهم يؤكدون على أهمية مثل هذه التجارب، يقول الدكتور "تشاندلر" ينبغي عليك أن تمرن إرادتك كما تمرن عضلاتك . كما أن رحلة الحج تعتبر درساً عملياً يتعلم فيه المؤمن الكثير، بل ويحتاجه المؤمن ليتعلم شيئاً جديداً. فهذا هو أحد علماء البرمجة اللغوية العصبية الدكتور ميرفي يقول: "حاول أن تتعلم شيئاً جديداً في كل يوم، وستجد عقلك في شباب دائم" .
ثانياً : الفوائد الصحية للحج:
1 ـ العلاقة التبادلية بين الصحة البدنية والصحة النفسية :
فنحن نعلم أنّ هناك علاقة تبادلية بين الصحة البدنية والصحة النفسية، وطبيعة الصحة النفسية ترتبط بجانب العلاقات الاجتماعية، كلما توسع نطاق العلاقات الاجتماعية وبني على أسس صحيحة وسليمة ومن أهمها الارتباط بالله تبارك وتعالى، كلما أصبحت صحة الإنسان النفسية في مستوى عالٍ, انعكست في تأثيرها على بدن الإنسان، لأنّ الكثير من أمراض الإنسان الجسمية والبدنية تعود إلى الحالة النفسية التي يعيشها الإنسان. والحج- كما نلاحظ - يحقق للإنسان علاقات اجتماعية رائدة مبتنية على الارتباط بالله تبارك وتعالى والأخوة في الله جل وعز، ولذلك، نجد أنّ هذا الجانب المعنوي ينعكس على الجانب المادي في صحة الإنسان
2 ـ الحج فرصة للإستفادة من تجارب الآخرين في مجال الوعي الصحي :
حيث نجد من الأمور المحسوسة والمرئية أنّ الحاج تتاح له فرصة كبيرة في أن يتسع أفقه من ناحية الوصول إلى مستوى أعلى في فهم مايحتاج إليه من الناحية الصحية، وذلك، من خلال علاقاته بالآخرين وما يطلع عليه من تجاربهم وخبراتهم المتعددة, وفي غير الحج لا تتيح له الظروف الطبيعية الالتقاء بهم والتحدث إليهم والاستماع منهم،بينما في الحج تتاح له فرصة كبيرة للاستماع إلى الكثير من البرامج التوعوية في الناحية الصحية من جهة، وكذلك، الاستفادة من تجارب الحجيج، الذين يلتقي بهم، ويستمع إليهم، من جهة أخرى. وهذه التجارب القيّمة يكون لها مردود إيجابي ينعكس على صحته البدنية، وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، ولعل تلك الروايات التي تشير إلى تحقق هذا الأثر للحاج تريد أن تبين أنّ الحاج يتاح له ما لا يتاح لغيره؛ في الاطلاع والاستماع لمرئيات وتجارب الآخرين، وهذا بالتأكيد سيرفع من مستوى الوعي الصحي لديه, وبالتالي ينعكس عليه إيجابيا في صحته, وهذا الأثر أهم من الغنى من الناحية المادية, باعتبار أن الإنسان ينفق أمواله من أجل الصحة في بدنه.
3 ـ العلاج بالمشي :
في عبادة الحج يعتبر المشي أمراً أساسياً في هذه العبادة. وتؤكد الأبحاث الجديدة أن رياضة المشي تساعد على شفاء الكثير من الأمراض المزمنة والمستعصية العلاج، كما تعتبر رياضة المشي أساساً في طب الشيخوخة وإطالة العمر!!! ويقول الأطباء إن المشي الطويل يشفي من سرطان القولون ويعالج آلام الظهر ويحسّن الذاكرة ويزيد قوة التركيز. أليست هذه من المنافع التي حدثنا الله عنها: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ..(28)}(الحج) . وهذه الآية نزلت في زمن كان الناس يعتقدون في أوربا أن الحج ما هو إلا عذاب للنفس وعقوبة وعمل لا منفعة منه!!
في دراسة حديثة لجامعة هارفارد الأمريكية أثبت الباحثون أن المشي بسرعة معتدلة ( بحدود 4-5 كيلو متر في الساعة) يؤدي إلى تخفيض الإصابة بأمراض القلب بنسبة 40 بالمئة عند النساء والرجال على حد سواء. وأكدت الدراسة أن المشي يحسن التنفس عند الإنسان، ويعزز نظام المناعة، ويقضي على الكآبة، ويساعد على الوقاية من نخر العظام، ويساعد على التخفيف من مرض السكر، كما يساعد على السيطرة على الوزن الزائد ، حتى إن العلماء بأمريكا بدأوا ينصحون الناس بالمشي بدلاً من استخدام السيارات لأن نسبة الناس ذوي الوزن الزائد تجاوزت 40 % ، ويؤكدون أن الوزن الزائد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأمراض القلب ومرض السكر، ويؤكد التقرير الصادر عن مركز السيطرة على الأمراض بأن أفضل أسلوب لحياة الأمريكيين هو المشي .
وفي دراسة حديثة تبين أن المشي يحرض إنتاج مادة شبيهة بالمورفين وتسمى endorphins في الجسم والتي تؤدي إلى الشعور السريع بالتحسن. ويؤكد علماء النفس أن المشي يكسبك احتراماً لذاتك وشعوراً بالارتياح . وتنصح الدراسة بأن يكون اللباس والحذاء مريحين لتحقيق أفضل النتائج، وهذا ما أمرنا به الإسلام من خلال لبس لباس الحج والنعلين، فسبحان الله الذي أمرنا بهذه النصائح رحمة بنا!
4 ـ ماء زمزم شفاء وطاقة :
يعتبر بئر زمزم أقدم بئر في العالم ، حيث يتدفق منها ماء زمزم على عمق عدة أمتار تحت سطح الأرض ، وقد ثبُت طبياً أن ماء زمزم خال تماماً من أي فيروسات أو بكتريا أو كائنات دقيقة، وثبُت أيضاً أن هذا الماء يشفي من الأمراض المستعصية، بل إن هنالك دلائل تشير إلى أن ماء زمزم يحوي طاقة أكبر من الماء العادي، وربما تعجز الصفحات عن سرد قصص كثيرة لأناس يئس الطب من شفائهم، وعندما جاؤوا للحج أو العمرة وأخلصوا النية وشربوا من هذا الماء بقصد الشفاء شفاهم الله تعالى!
ثالثا : فوائد الحج الإجتماعية:
1 ـ التعارف و بناء العلاقات الإجتماعية السليمة :
من المنافع الاجتماعية البارزة في رحلة الحج التلاقي والتعارف ، وبناء العلاقات الاجتماعية السليمة, مع مختلف أنماط وضروب المجتمع، على أساس الارتباط بالله تبارك وتعالى دون تفرقة، بمعنى أنّ الحاج يتاح له من خلال أدائه لهذه الفريضة المقدسة أن يلتقي مع مختلف من أسلم وجهه لله وهو محسن، وجاء إلى هذه الأماكن المقدسة، ممن يشترك معهم في الإسلام, وهذا يعني، أنّ هناك حقوقاً يجب عليه أن يؤديها تجاه إخوانه من المسلمين، وأيضاً هناك حقوق يجب على المسلمين أداؤها تجاهه، والتعرف على هذه الحقوق المتبادلة بين الحاج وإخوانه الآخرين، لا يتأتى في الحالة الطبيعية والعادية لدى الناس، وأما في الحج فيتم التعرف على هذه الحقوق بأكمل صورة، بحيث ترتفع تلك الأطر الضيقة, التي تشكل حاجزاً سميكاً لا تتاح فيه للإنسان الرؤية الواعية، التي تتجاوز الأطر الضيقة، التي تَحُد الإنسان وتقيده من الانطلاق والانفتاح على الآخر، وهذه الأطر الضيقة قد تكون الأسرة أو القبيلة أو البلد الذي يسكنه أو الطائفة التي ينتمي إليها وما إلى ذلك من الأطر. ولكن الحج يتاح فيه للحاج الوافد على الله أن يزيل تلك الحجب و القيود، أو على الأقل يخفف منها، كي يستوعب الرؤية الواقعية التي يشير إليها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ..(13)}(الحجرات)، فيبدأ هذا الحاج بالتعامل على أسس قرآنية أصّلها الإسلام الحنيف، ومن أهم هذه الاسس أنه لا فرق بين الإنسان وبين أخيه الإنسان إلا بتقوى الله تبارك وتعالى، وهذه نعمة كبرى تتأكد بالذهاب إلى الحج، بحيث لايرى الحاج أنّ تلك الأطر الضيقة تؤثر في مساره العملي والسلوكي, بل؛ يبني علاقات اجتماعية على تقوى الله وعلى أسس سليمة منفتحة على مختلف أفراد وجماعات وفئات المسلمين الذين اشتركوا معه في أداء هذه المناسك، ولعل هذا الاثر الطيب الاجتماعي يحدث تأثيراً في منحيين:
الأول: التأثير في الجانب الحسي والمادي.
الثاني: تأثيره في الجانب المعنوي للإنسان.
إذاً بناء العلاقات الاجتماعية على أسس سليمة بروابط مستقيمة لا تحدها الأطر الضيقة ينتج هذين المنحيين. بينما نجد أنّ الاتجاهات الحديثة تعتمد على التعامل الحر في المجال الاقتصادي فقط . ولكنّ الإنسان إذا أدى فريضة الحج، فإنه يتاح له أن يعتمد الحرية في تعامله وتبادله مع أخيه الإنسان ليس من الناحية الاقتصادية فحسب، بل من كل النواحي, التي يُعد الجانب الاقتصادي في ضمنها. إذاً للحج أبعاد متعددة وصدق الباري تبارك وتعالى الذي قال: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ }، والمنافع جمع منفعة، وهي لا تحد بمنفعة خاصة في المجال المعنوي فقط أو المجال المادي فحسب، بل تتعدد هذه المنافع لتشمل كل الأبعاد التي يتعامل معها الإنسان، فيجد أنّ هناك مجموعة من المصالح قد تحققت لديه ببركات هذه العبادة العظيمة.
2 ـ الحج يمنح الوعي السياسي والإنتماء للوطن :
وإن الحج كما يؤكد الدكتورمحمد سيد أحمد المسير الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر ينبغي أن يغرس الوعي ويحيي الذاكرة، ويربي المسلم نفسا وبدنا، ويمنحه وعيا سياسيا وسلوكا اجتماعيا رفيعا، فهو يجدد في المسلم الولاء لله ورسوله والوفاء بعهد الله، والحفاظ على حرمة المساجد والاعتزاز بالوطن والحرص على كل ما يربطه بدينه ووطنه، وما يقربه من الله عز وجل.
إن كل من ينعم الله عليه بأداء هذه الفريضة ينبغي أن يقف طويلا أمام آيات القرآن الكريم يستشعر معناها ويلتمس أماكن نزولها ويتذكر أحداث تاريخها.
3 ـ تعميق معنى الوحدة :
الحج لقاء سنوي عالمي يلتقي فيه المسلمون لتجسيد الوحدة الإسلامية، ففيه تتجلي وحدة الشعائر ووحدة الهدف، فالمسلمون الحجاج على اختلاف أجناسهم وألسنتهم، يؤمنون برب واحد، ويطوفون ببيت واحد، ويؤدون أعمالاً موحدة . و يؤكد د. محمد نبيل غنايم أستاذ الشريعة الإسلامية ومدير مركز الدراسات الإسلامية بجامعة القاهرة أن من أبرز منافع الحج تعميق معنى الوحدة في حياة المسلمين، ففي الحج نرى معنى الوحدة واضحا في كل شيء.. وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول، لا إقليمية ولا عنصرية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، إنما حجاج بيت الله جميعا مسلمون، برب واحد يؤمنون، وبيت واحد يطوفون ولرسول واحد يتبعون، ومشاعر ومناسك الحج واحدة تؤلف بين القلوب وتجمع بين الصفوف.
ومن هنا والكلام للدكتور غنايم كان من أبرز فوائد الحج تجميع المسلمين على هدف واحد، وتوحيد مواقفهم تجاه الأحداث الكبرى التي تشهدها مجتمعاتهم، وما أكثر الأحداث التي تمر بالأمة الإسلامية الآن من احتلال للأوطان وصراعات سياسية، واستنزاف لخيرات وثروات المسلمين، والمسلمون مختلفون في كيفية المواجهة بل بعضهم يختلف ويتشاحن في أمور لا يختلف عليها العقلاء في كل أمة.
ويؤكد د. غنايم ضرورة توظيف موسم الحج لتحقيق الوحدة المأمولة بين المسلمين والتخلص من أسباب الشقاق والفرقة، ويقول: ما المانع أن يجتمع عقلاء الأمة من سياسيين ومفكرين وعلماء في مؤتمر عام قبل أداء الفريضة أو بعد الانتهاء منها وطرح كل القضايا المثيرة للجدل والخلاف للمناقشة والاتفاق على خطوط عريضة تحقق المصالح العامة للمسلمين؟ ولدينا الآن الكثير من الهموم والإشكاليات والنزاعات بين المسلمين مما يستحق طرحه للمناقشة والتوصل إلى حلول بشأنه.
4 ـ تهذيب السلوك الإجتماعي وترسيخ القوة الرحيمة لدى الحاج :
يؤكد الخبير الاجتماعي د. أحمد المجدوب أستاذ علم الاجتماع ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن عبادات الإسلام وشعائره تهدف كلها إلى خير المسلمين في الدنيا إلى جانب خيرها في الآخرة، فهي تربي المسلم الملتزم بآدابها وأخلاقياتها على الفضائل وتهذب سلوكه وتضبط تصرفاته، وبالتالي تحسّن العلاقة بينه وبين كل المحيطين به.
ويضيف: الفوائد أو المنافع الاجتماعية التي تعود على المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة ويلتزم بآدابها وأخلاقياتها كثيرة جدا، وثمرة الحج الاجتماعية تظهر أولا في رحلته المباركة، وعلاقته بالإنسان والحيوان والنبات بل والجماد في كل مكان يذهب إليه منذ خروجه من بيته وحتى عودته إليه، فهو مطالب شرعا بالإحسان إلى كل من يتعامل معه، ولذلك نجد سلوكياته مثالية وعلاقاته بالآخرين طيبة، فلا يشتم ولا يظلم ولا يقسو على أحد، بل نجده متعاونا ودودا حريصا على كل سلوك طيب وكل عمل نافع واضعا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” نصب عينيه.
أيضا نجد الحاج منضبطا في سلوكه في الأماكن المقدسة، فلا يعتدي على زرع ولا طائر ولا حيوان ولا يشارك في خطيئة الإضرار بالبيئة، وهذا كله يربي في المسلم الالتزام بالسلوكيات الفاضلة ويصرفه عن كل سلوك خاطئ لا يقره ديننا سواء أكان هذا السلوك ضد إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد.
و يرى الدكتور محمد سيد أحمد المسير الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر أن من أهم منافع الحج الاجتماعية قدرته على تربية المسلم تربية تقوم على القوة الرحيمة التي تعني التواضع وكظم الغيظ والحلم والأناة والرفق والتواضع وحسن الخلق. فالله سبحانه وتعالى يقول: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين }(آل عمران)، فهذه الصفات وإن كانت شعار المسلمين في كل وقت ومكان إلا أنها في الحج أكثر تأكيدا وإلزاما، فالقوة الرحيمة أو قوة الرحماء هي أسمى ما يتخلق به الإنسان وأعلى ما يهدف إليه المصلحون، وأعظم ما يفكر فيه العقلاء، وأبهى ما تراه العيون.