التصورالشعري : مفهومه وتحديده

التصور الشعري مفهومه وتحديده
***********************
سنعمل في هذه المقاربة على الانطلاق من جذور تكون الموضوع ، التي لا تنفصل عن عملية السؤال الدائم عن الاهتمام بآليات ومكونات العملية الابداعية ؛ برغم الصعوبة والخطورة التي تعترض المقاربة .
لكن الاستئناس ببعض المفاهيم الجنينية ، والبحث عن الدوائر التي تتاخم مفهوم التصور ، كالخيال والصورة ، بما لهما من علاقة تواشجية بمفهوم "التصور " ،باعتباره " مجموعة عناصر بنائية وفكرية يحددها الناقد من خلال تحليله للرواية أو القصة أو المسرحية " كما يذهب الدكتور "سمير حجازي "في كتيبه الجيبي "قاموس مصطلحات " ؛ وهو تعريف كما يلاحظ القارئ قاصر ولا يسعف في اغناء المفهوم ، فهو قاصر من جهة قسره على الناقد فقط ، مع أن تصور الناقد هو تصور على تصور ، على اعتبار أن النقد هو اشتغال اللغة على اللغة ، كما تذهب البنوية . وهو قاصر أيضا لأن مصطلح بنائية مصطلح فضفاض ، قد يرتبط بعناصر البناء ، من لغة وتركيب وصياغة وشكل نهائي لعمل ما ، ويغفل العناصر التكوينية ، كالخيال مثلا ، التي تعتبر بذرة أي عمل ابداعي .
واذا كانت الصورة الشعرية مثلا هي ذلك " البروز المتوثب والمفاجئ على سطح النفس " كما يذهب الى ذلك غاستون باشلار ، فان هذه الصورة نفسها لاتنشأ خارج عملية التصور ، وان كانت في الابداع الشعري خاصة ذات طبيعة خاطفة ومفاجئة أحيانا كثيرة.
ومعلوم أن مفهوم التصور مفهوم فلسفي يرتبط بالقدرات العقلية والادراكية على تصور مقولات ومنظومات فلسفية ذات طابع تجريدي محض . لكنه في الشعر يختلف كليا عن هذا النمط التركيبي العقلي . فالتصور الشعري تصور بطبيعته خصب ومعقد ،ومنشأه بالأساس نفسي وذهني ، اذ تتفاعل فيه مجمل الحواس في ترابط حميمي بالخيال والذاكرة والادراك أحيانا ،والخيال هنا كقدرة عظيمة على تمثل عوالم غريبة عن الذهن البسيط أو العملي .
ولعل هذه الخطورة والصعوبة في تحديد الصورة الشعرية باعتبارها الشكل النهائي لعملية التصور هي التي دفعت بباحث ك"باشلار " الى الاعلان عن عجزنا عن القبض على تعريف محدد للصورة الشعرية ؛ واذا كان هذا العجز ينطبق على صورة معطاة ، فكيف يكون الحال عن عملية وصيرورة تكون الصورة ؛ وهي في طور التصور ؟ .
واذا كان "جان بياجيه " يرى أن " القدرة على التصور هي سيرورة تقليد واستعمال الصور العقلية " وهو يروم تحليل عملية التصور عند الطفل ، وبالتالي يصبح التصور لديه كمفهوم عام هو " نسق من القواعد ، وبواسطتها تتمكن العضوية من الاحتفاظ بخصائص محيطها ، و هذا المفهوم واسع ، فكل سيرورة معرفية مرتبطة بالشعور منذ الولادة " ، فان هذا المفهوم يظل غامضا ، خاصة ونحن أمام حقل من أهم حقول علم النفس ، وهو علم النفس المعرفي ، اذ نحن نلاحظ أن هذا المفهوم لا ينطبق على التصور الشعري مثلا ، وهو ينطبق بشكل عام على الانسان في عمومه وليس في وظائفه .
هكذا نعود الى باشلار الذي يرى صعوبة "معرفة: على أي عمق سوف يتم رجع الأصداء وكيفية تلاشيها " ، لأن موضوعة التصور الشعري من أعقد موضوعات التصورات البشرية ، لارتباطها بمجموعة هائلة من العمليات الذهنية والحسية والشعورية والادراكية ، مرتبطة بعملية التذكر والاستحضار والتوهم والاستدعاء ...الخ ، لينتج هذا التفاعل كتصور ابداعي شعري يتمظهر في شكل صورة شعرية ، وكلما كانت الصورة غنية وبعيدة كان شاعرها خصب الخيال وثري الاحساس ومتوقد الذهن ومتحكم في أدواته اللغوية والبلاغية .
وقد أخطأ كثيرا علم النفس المعرفي في مقاربته لمفهوم التصور بشكل عام ، وهو يعرفه بكونه "هو تقليد عقلي مستدخل للادراك ، وبالتالي فالتصور مستقل (غير مرتبط) بالادراك المباشر ، وهويرجع الى الاستحضار العقلي لموضوع أو شخص ،أو وضعية أو فكرة ، مع غياب هذا الشخص أو الوضعية أو الفكرة . والتصور -في النهاية- هو اعادة بناء للواقع وهو انتاج عقلي " فالبرغم من قصور هذا التعريف وان في شكله البدائي ، الا أنه يظل حجر أساس لبناء نظرية أكثر تقدما وجرأة ، اذا انتبهنا جيدا للبدايات التكوينية ، ولمجمل مثيرات عملية التصور .
وبما اننا نركز بحثنا هنا في التصور الشعري فسوف نعمل على تتبع مختلف عمليات ولادته وتطوره ، قبل أن يتجلى في الصورة الشعرية . فبا شلار وهو الباحث الذي قارب مفهوم الصورة الشعرية من خلال تتبع جذور تكوينها ، يرى أن الصورة الشعرية "مستقلة عن السببية " وهو يعي مدى خطورة هذه الحقيقة ، ومن هنا منشأ ضعف مفهوم مدرسة علم النفس المعرفي ، اذ تربط تكون الصور بغياب الحافز ؛كما رأينا ؛ مع استحضار السببية-المثير - ،وهنا نقع أمام عائقين ابستيميين ، غياب السببية ، وحضور المثير ، ومعلوم لكل مشتغل بكتابة الشعر أن العملية هنا تاخذ كل تعقيدها ، اذ أحيانا ما تصدر القصيدة بشكل مفاجئ ودون استدعاء او استحضار ، وغالبا ما تجد لها مثيرا قد يضعف ن وقد يقوى تبعا لمدى قوة فاعليته ن ولمدى اختراق هذه الفاعلية للمستوى النفسي الذي يكون عليه الشاعر . فالقضية تدخل بنا فعل الاحراج ، وتصبح أكثر تعقيدا مما نتصور . لأن المسألة ترتبط بظاهرة وجدانية وذهنية في آن ، وهنا لا يسعف البحث السيكولوجي الا بشكل ضئيل في الوقوف على التكوينات الأولى للتصور الشعري ...يتبع

شكرا على الفائدة

شكرا وبارك الله فيك

معلومات أدبية مهمة

شكرا لك ودمت بود