مناظرة . . بين السيف والقلم
الكاتب : أبو جندل الأزدي
لزين الدين عمر بن الوردي المتوفى سنة 749 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
لمَّا
كان السيفُ والقلمُ عُدَّتي العمل وَالقَوْل، وَعُمْدتي الدُّوَل، فإنْ
عَدِمَتهما دولَةٌ فلا حَوْلَ، وَرُكْني إسنادِ المُلْك الُمعربَيْنِ عن
المخفوضِ والمرفوع، وَمُقَدِّمَتَي نتيجة الجدلِ الصادر عنهما المحمولُ
والموضوع فكَّرْتُ أيهما أعظمُ فخراً وأعلى قدراً فجلستُ لهما مجلسَ
الحُكْمِ والفتوى، ومثلتُهما في الفكرِ حَاضِرَيْنِ للدعوى، وسوّيت بين
الخصمينِ في الإكْرَامِ، واستنطقتُ لسانَ حالِهمَا للكلام.
فقال القلم :-
بسم
الله مجريها ومُرْساها، والنهار إذا جَلاّها والليل إذا يغشاها، أما بعد
حمد الله خالق القلم، ومشرفة بالقسَم، وجاعله أول ما خلق، جَمّل الورق
بغصنه كما جَمّل الغصن الورق. والصلاة على القائل : "جفت الأقلامُ"، فإن
للقلم قصَبُ السباق، والكاتِبُ بسبعة أقلام من طبقات الكتاب في السبع
الطباق، جَرَى بالقضاء والقدر، ونَابَ عن اللِّسان فيما نهى وأَمَرَ،
وطالما أربى عَلَى البِيض والسُّمْر في ضرابها وطعانها، وقاتل في البعد
والصوارم في القُرْبِ ملء أجفانها، وماذا يُشْبِهُ القلم في طاعة ناسه ؟
ومشيه لهم على أمِّ ر اسه ؟
قال السيف :-
بسم
الله الخافض الرافع، وأنزلْنَا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع، أما بعد حمد
الله الذي أنزل آيةَ السيفِ فعظَّمَ بها حرمة الَجْرح وآمن خيفةَ الخيف،
والصلاة على الذي نفذَّ بالسيف سطور الطروس، وخدمته الأقلام ماشية على
الرءوس، وعلى آله وصحبه الذين أُرْهِفَتْ سيوفهم، وبُنِيَتْ بها على كسر
الأعداء حروفهم، فإن السيف عظيم الدولة شديد الصّولة، محا أسطار البلاغة،
وأساغ ممنوع الإساغة، من اعتمد على غيره في قهر الأعداء تعب، وكيف لا وفي
حَدِّه اَلْحدُّ بين الجدِّ واللِعبِ ؟!
فإن كان القلم شاهداً، فالسيف
قاض، وإن اقتربت مجادلته بأمر مستقبل قطعَهُ السيف بفعل ماض، به ظهرَ
الدينُ، وهو العُدّة لقمع المعتدين، حَمَلَتْهُ دون القلم يد نبيِّناَ،
فَشَرُف بذلك في الأمم شرفاً بيِّناً، الجنة تحت ظِلاله، ولا سيما حين
يُسَلُّ فترى وَدْقَ الدم يخرج من خلاله، زُينت بزينة الكواكب سماء غِمدة،
وصدَقَ من قال "السيف أصّدَقُ أنْباءٍ من ضده " لا يعبثُ به الحاملُ، ولا
يتناوله كالقلم بأطراف الأناَمل، ما هو كالقلم المُشَبَّه بقوم عرُوُّا عن
لبوسهم، ثم نُكسوا كما قيل على رُءُوسهم، فكأن السيف خُلِق من ماءٍ دافق،
أو كوكب راشق مقدراً في السّرْد، فهو الجوهر الفَرْد، لا يُشترى كالقلم
بثمن بخس، ولا يبلى كما يبلى القلم بسواد وطمس، كم لقائمه المنتظر، من أثرٍ
في عينٍ أو عينٍ في أثر، فهو في جراب القوم قَوامُ الحرب، ولهذا جاء مطبوع
الشكل داخل الضرب.
فقال القلم :-
أَوَمَنْ
يُنَشَّأُ في الحلية وهو في الخصام غيرُ مُبيِن، يُفاخرُ وهو القائمُ عن
الشِمال، وأنا الجالس على اليمين؟! أنا المخصوصُ بالرأي وأنت المخصوص
بالصَّدَى، أنا آلة الحياة وأنت آلة الردى، ما لِنْتُ إلا بعد دخول السعير،
وما حُدّدت إلا عن ذنبٍ كبير، أنت تنفع في العمر ساعة، وأنا أُفني
العُمْرَ في الطاعة، أنت للرَّهَب، وأنا للرَّغَب، وإذا كان بَصَرُك حديداً
فبصري ماءُ ذهب، أين تقليدُكَ من اجتهادي، وأين نجاسة دمك من تطهير مِدادي
؟
قال السيف :-
أمثلك يُعَيِّرُ مثلي
بالدماء؟! فطالما أمرتُ بعض فراخي ـ وهي السكين ـ فأصبحت من النفاثات في
العقد يا مسكين، فأخلَتْ من الحياة جُثمانك، وشقّت أنفك وقطعت لسانك.
ويلك
! إن كنت للديوان فحاسِبٌ مهموم , أو للإنشاء فخادمٌ لمخدوم، أو للتبليغ
فساحر مذموم، أو للفقيه فناقص في المعلوم، أو للشاعر فسائل محروم، أو
للشاهد فخائف مسموم، أو للمعلم فللحيّ القيُّوم أمَّا أنا فلي الوجه الأزهر
والحلية والجوهر والهيبة إذ أُشْهَر , والصعود على المنبر. ثم إني مملوك
كمالك، فإنك كناسك، أسلك الطريق واقطع العلائق.
فقال القلم :-
أما
أنا فأبن ماءِ السماءِ , وأليف الغدير وحليف الهواء، أما أنت فابن النار
والدخان وناثرُ الأعمار وخَوَّان الإخوان تفصل ما لا يُفصل وتقطعُ ما أمر
الله به أن يُوصَل، لا جرم أن صَعَّرَ السيف خده وصقل قفاه , وسُقيِ ماءً
حميماً فَقَطّع مِِعَاه، يا غُرَاب البين , ويا عُدَّة الحْينِ، ويا
مُعْتَلّ العين، ويا ذا الوجهين، كم أفنيت وأعدمت ؟ وأرملْتَ وأيْتَمْتُ ؟
قال السيف :-
يا
ابن الطين ! ألست ضامراً وأنت بطين ؟! كم جَرَيت بعكس وتصرَّفت في مكس
وزَوَّرْت وَّحرفت، و نكّرت وعرّفت، وسَطّرت هجواً وشتما ً، وخلّدت عاراً
وذمًّا، أبشر بفرط رَوْعتك، وشدة خِيفتك، إذا قِسْتَ بياض صحيفتي بسواد
صحيفتك، فألِنْ خطابك فأنت قصير المدة، وأحسن جوابك فعندي حِدّه، وأقلل من
غلظتك، وجبهك، واشتغل عن دم في وجهي بقبيح في وجهك، وإلا فأدنى ضربةٍ مني
تروم أرومتك، فتستأصلكَ وتجتثُّ جرثومتَك، فسقياً لمن غاب لك عن غابك،
ورعياً لمن لو أهاب بك لسلخ إهابك.
فلما رأى القلمُ السيفَ قد احتد، ألان له من خطابهِ ما اشتد وقال :-
أما
الأدب فيؤخذ عنِّي، وأما اللطف فيُكتسب منِّي، فإن لِنْتَ لنتُ، وإن
أحسنتَ أحسنتُ، نحن أهل السمعِ والطاعةِ، ولهذا نجمعُ في الدواةِ الواحدةِ
منَّا جماعة، وأما أنتم فأهلُ الحدةِ والخلافِ، ولهذا لا يجمعون بين سيفين
في غلاف.
قال السيف :-
أمَكْراً ودعوى
عِفّة ؟ لأمرٍ ما جدع قصير أنفه ! لو كنتَ كما زعمتَ ذا أدبٍ , لما قابلتَ
رأسَ الكاتبِ بعُقدةِ الذنَبِ، أنا ذو الصِّيت والصوتِ، وغِراري لسانَ
مشرَفي يرتجل غرائب الموت , أنا مِن مارجٍ مِن نارٍ، والقلم من صلصالٍ
كالفخارِ، وإذا زعم القلمُ أنه مثلي، أمرتُ مَنْ يدقُ رأْسه بنعلي.
فقال القلم :-
صَهْ فصاحبُ السيفِ بلا سعادةٍ، كأعزل.
قال السيف :-
مهْ فقلمُ البليغِ بغير حظٍ مغزل.
فقال القلم :-
أنا أزكى وأطهر.
قال السيف :-
أنا أبهى وأبهر.
فتلا ذو القلم لقلمه :-
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر:1).
وتلا صاحب السيف لسيفه :-
( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2).
فتلا ذو القلم لقلمه :-
( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3).
قال :-
أما
وكتابي المسطور، وبيتي المعمور، والتوراة والإنجيل، والقُرآن ذو التبجيل،
إن لم تكف عنِّي غرْبك، وتُبعد مني قُرْبك، لأكتبنكْ من الصُّمِّ والبُكم،
وَلأُسطرنّ عليك بِقلمي سجلاً بهذا الحكم.
قال السيف :-
أما
ومَتْني المتين، وفتحي الْمُبين , ولسانَيّ الرطبين، ووجهَيّ الصُلبين،
إنْ لم تُغِبْ عن بياضي بسوادك، لأمسَنَّ وجهك بمدادك، ولقد كسبت من الأسد
في الغابة، توقيع العين والصلابة، مع أني ما ألوتُكَ نصحاً أفنضرب عنكم
الذكر صفحاً ؟
قال القلم :-
سَلِّم
إن كنتَ أعلى فأنا أعلم , وإن كنتَ أحلى فأنا أحلم، وإن كنت أقوى فأنا أقوم
, أو كنت ألوى َ فأنا ألوم , أو كنت أطرى فأنا أطربُ، أو كنت أغلى فأنا
أغلب , أو كنت أعتى فأنا أعتبُ , أو كنت أقضى فأنا أقضب.
قال السيف :-
كيف لا أفْضُلك , والمقرُّ الفلانيُّ شادٌّ أزري.
قال القلم :-
كيف لا أفْضُلك وهو ( عزَّ نصرهُ ) ولي أمري ؟
قال الحَكمُ بين السيفِ والقلمِ :
فلما
رأيتُ الحجَّتيْن ناهضتين، والبيِّنتيْن بينتيْن مُتعارضتين، وعلمتُ أنَّ
لكلِّ واحدٍ منها نسبةً صحيحةً، إلى هذا المقرَّ الكريم، ورواية مُسْندة عن
حديثه القديم، لطَّفتُ الوسيلة، ودققّتُ الحيلة حتى رددْتُ القلم إلى
كنَّه , وأغمدتُ السَّيف فنام ملء جفنه، وأخّرْتُ بينهما الترجيح وسكتُّ
عمّا هو عندي الصّحيح، إلى أن يحكم المقرُّ بينهما بعلمه، ويسكِّن سورة
غضبهما الوافر ولجاجهما المديد ببسط حلمه.