تميز القرن العشرون بتطور سريع طال جميع ميادين الحياة بما فيها المعارف والعلوم والتقنيات التي أصبحت تعالج وتتبادل عبر قنوات متطورة ومتنوعة للإيصال. كما اتسم بصراع حاد بين لغات مهيمنة كتبت لنفسها مواقع مع حركات الاستعمار والحروب العالمية، ولا سيما الثانية منها، وكذا مع التقدم العلمي والتقني والاقتصادي الذي أدركته على حساب لغات أخرى. ولم تزل هذه اللغات تخطط، بالرغم من انحسار الحركات الاستعمارية والحروب التقليدية، لتحتل مكان الصدارة ولتطرح نفسها كبديل للغات الأم في المجتمعات الضعيفة؛ بديل "قادر" على صياغة التقدم المنشود وبناء مستقبل الإنسان به. وليست لغتنا العربية بمنأى عن هذا الوضع الشاذ.
فإذا كانت اللغة العربية هي لغة ما يقرب من 300 مليون شخص، محتلة بذلك المكانة الثالثة بعد الإنجليزية التي يبلغ عدد مستعمليها 630 مليونا والإسبانية التي يبلغ عدد الناطقين بها 375 مليونا، فإن مكانتها فيما يتعلق بالإنتاج والنشر والمعاملات الاقتصادية لا تتعدى في أقصى الحالات 1%. وتظهر تكنولوجيا المعلومات الحديثة على أبواب الألفية الثالثة كمخرج لهذه اللغة، كما لبعض اللغات الإنسانية ذات الانتشار الواسع، من ورطة الأفول التي تواجهها نظرا لضعف تواجدها عبر الشبكات الإلكترونية سواء كلغة حضارة أو كلغة علم وتقنية أو اقتصاد وتجارة.
على أن تواجد هذه اللغة عبر الشبكات يطرح إشكالات متعددة ليس أبسطها الإشكال التقني المتمثل أساسا في ولوجها عالم الحاسوب واستتبابها فيه؛ أو بمعنى آخر في قدرة الحاسوب على التكلم بالعربية أي على التعامل مع الحرف والكلمة والجملة العربية على مستوى المدخلات Inputs، والمعالجة Analysis والمخرجات Outputs. كما أن لهذا التواجد مخلفات لربما أدت باللغة إلى الابتعاد من حظيرة اللغات المهمة على المستوى الدولي. ويبقى السؤال الملح هو ما إذا كان الإشكال التقني معقدا لدرجة لا تمكن مواجهته أم أن هناك مجالا لتدارك الأمر وبناء مكانة للغة العربية في الحاسوب وتبعا لذلك في الفضاء الإلكتروني في مستهل الألفية الثالثة؟ هذا ما سنحاول توضيحه فيما يلي عبر عرض الوضعية الراهنة لتقنيات إدخال العربية في الحاسوب، وكذا الإشكالات المطروحة سواء فيما يتعلق بالحرف العربي، أو بالتقييس والمواصفات، أو بالمصطلحات، أو ما يرتبط بالأجهزة والمعدات مع إبراز نوعية العراقيل التي لازالت قائمة والتي لا غرو في أنها ستؤخر مسيرة غزو العربية للفضاء الإلكتروني.
تقنيات إدخال اللغة العربية في الحاسوب:
لقد استرعت قضية تقنية إدخال اللغة العربية في الحاسوب، أو تعريب الحاسوب، منذ بداية السبعينات، اهتمام العديد من الأخصائيين في تقانة المعلوميات والإلكترونيات وكذا اللسانيات من مختلف أقطار العالم العربي، بالإضافة إلى العديد من الشركات المعلوماتية الغربية. ويمكن تلخيص المجهودات القائمة في:
ـ تعريب خدمات الإدخال والإخراج بالحرف العربي، ويشمل ذلك إدخال البيانات وتشفيرها وخزنها وإظهارها على الشاشة وأخيرا طبعها؛
ـ تعريب التطبيقات الحاسوبية أو البرمجيات وذلك بطريقتين تعتمد إحداهما البرمجيات الموضوعة باللغة العربية اصلا وتعتمد الثاني برمجيات موضوعة بلغات أخرى ولكنها تشتغل بالحرف العربي؛
ـ تعريب نظم تشغيل الحواسيب حسب أحجامها.
ولبلوغ ذلك كان من الضروري الاهتمام أولا بتحديث وتبسيط كتابة وطباعة الخط العربي وكذا بالتقييس وباستحداث المصطلحات الضرورية لتعريب الحواسيب ثم بمعالجة الصوت. على أن المرحلة الثانية قد خصصت لتطويع الأجهزة والنظم والبرمجيات للتعامل مع الخط العربي. علما بأن هناك مدرسة فكرية تهدف إلى تطويع التقانة وإخضاعها لشروط اللغة والثقافة العربيتين، ويحمل لواءها بحاثة وبيوت خبرة عرب منها شركة "أليس" التي يديرها البشير الحليمي، وهو جزائري الأصل، بكندا وشركة "سيموز" التي يديرها محمد عز الدين بفرنسا وغيرهما. وهي تقابل المدرسة التي تدعو إلى تطويع اللغة لتساير التقانة الحاسوبية والتي يتزعمها جل بحاثة الرعيل الأول من العرب وكذا بعض شركات تصنيع الحواسيب الغربية.
الحرف العربي: المعالجة والتقييس
لقد تعددت البحوث والمشاريع الإصلاحية التي عنيت بالحرف العربي خلال العقود الأخيرة والتي قد تبلغ 300 حسب بعض التقديرات، كما تعددت المؤتمرات والمناظرات التي عقدت لنفس الغرض. ومن أهم ما عنيت به إدخال الشكل للحرف العربي وتبسيطه من خلال تقليص عدد أشكال الحروف ومعالجة عملية ربط الأحرف في الكلمة الواحدة. ولم يكن غنى الحرف العربي ليسهل المهمة على البحاثة؛ ذلك أنه تطور عن الحرف النبطي أو الحرف المسند وانتشر مع انتشار الإسلام والحضارة العربية لتستعمله مجموعات لغوية متعددة (التركية والهندية والفارسية والإفريقية) ولتدخله تغييرات عبر العصور تمكنه من التلاؤم أولا مع الكتابة اليدوية؛ حتى بلغ عدد الخطوط المعتمدة الثمانين لكل منها استعماله ومعاييره الدقيقة، وثانيا مع الطباعة التي طورت بعض الحروف على حساب حروف أخرى والتي بلغت مداها في مرحلة ثالثة، في العقود الأخيرة، بقصد إدخال الحرف العربي في الحاسوب. ومن أبرز الأبحاث في هذا المجال العمل المضني الذي قام به الأخضر غزال في إطار معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط.
على أنه إذا كان تبني المعلوماتية قد فرض على العربية تطورا خاصا بشكل يجعل الأجهزة المعلوماتية تتعامل مع الحروف والكلمات والجمل العربية على مستوى الإدخال والمعالجة، ثم الاسترجاع والطبع، فإنه بالإضافة إلى تطويع الحرف العربي ظهرت ضرورة إقرار شفرة عربية موحدة سميت CODARU/FD؛ وهي الشفرة التي اشتهرت فيما بعد بآسمو ASMO 449 –مجموعة المحارف العربية المشفرة ذات العناصر السبعة- والتي أقرت سنة 1985. كما اعتمدت من طرف المنظمة العالمية للمواصفات تحت رقم ISO/9036، متخذة بذلك طابعا دوليا شأنها في ذلك شأن آسمو ASMO 708 –مجموعة المحارف اللاتينية العربية الشفرة ذات العناصر الثمانية- والتي وقع تبنيها سنة 1988 والمعروفة بمواصفة ISO/8859/6.
وقد أدلت جمعية مصنعي الحواسب الأوروبيين ECMA بدلوها في الموضوع حين قام فريق عملها الخاص باللغة العربية بوضع مواصفة ISO/10646 التي تعارض القاعدة التي بنيت عليها المواصفتين السابقتين ASMO 449 وASMO 708: محرف واحد لحرف واحد.
ولم يكن كل ذلك ليحدث في غياب تنسيق للجهود القائمة، الشيء الذي افتتح بمبادرة من رابطة الحكومات للإعلامية، ابتداء من سنة 1976، ثم بمبادرة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ابتداء من 1980 وبتدخل من منظمات وهيآت التقييس مثل ISO وكذا من جمعيات مصنعي الحواسب الأوروبيين مثل ECMA.
ويتضمن المقياس العربي المتبنى لمجموعة المحارف 45، وتشمل 28 صوتا صامتا أو جامدا (ء ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ و ي)، بالإضافة إلى المصوتات وعددها 6 (الفتحة والضمة والكسرة إضافة إلى المد بالألف وبالواو وبالياء) ومحارف الضبط وعددها 4 (التنوين والشدة والسكون وهمزة الوصل، على أن تركيب هذه الإشارات مع بعضها يوصل عددها إلى 10) والمحارف الخاصة وعددها 7 (الهمزة بأشكالها: إ أ ؤ ئ وكذا الألف المقصورة: ى والمد: آ وأخيرا التاء المربوطة: ة). وتجدر الإشارة إلى أن المحارف ال45 هي المعتمدة في الحاسوب سواء لدى الدخول أو لدى الخزن بالذاكرة أو لدى النقل عبر شبكات الاتصال الحاسوبية. على أن الخروج، أي طباعة النص، يقتضي أخذ أشكال الحروف حسب موضعها في الكلمة. ويوجز المختصون هذه الأشكال في أربعة أخذا ببعض قواعد التبسيط وهي الأشكال المعتمدة في المعيار الدولي Multibytecoded caracterset ISO/IEC 10646.
على أن معالجة وتقييس "الكلمة" و"الجملة" العربيتين لم يحظيان بنفس الاهتمام الذي حظي به الحرف العربي لا من طرف الأفراد والمنظمات العربية ولا من طرف الشركات التجارية الغربية. على أن جهود بعض البحاثة ومراكز التعريب في الأقطار العربي قد ارتكزت أساسا على البحث عن جذور الكلمات العربية وأوزانها وعلى التحليل الصرفي والنحوي؛ رغبة منها خاصة في حل إشكاليات الترجمة الآلية وبنوك المعطيات وكذا التوثيق. أما جهود البحاثة والشركات الأجنبية فقد اتجهت وجهتين عملت إحداهما على وضع برمجيات باللغة العربية وعملت الثانية على توسيع برمجياتها ونظمها لتشمل اللغة العربية.
على أنه وبالرغم من الجهود المبذولة، فإننا نجد أن البحث العربي في مجالي الحرف والتقييس لم يحدث بالسرعة والشكل المطلوبين ليساير مستلزمات التطورات المعلوماتية والإلكترونية التي يعرفها المجال المعرفي الإنساني. ويرجع ذلك أساسا إلى ضعف التنسيق والتعاون بين الأقطار العربية علما بأن الحرف العربي يرتكز على منطق هندسي، وانطلاقا من ذلك فإن جميع الأحرف، من الألف إلى الياء، يمكن استخراجها من عناصر أساسية في الهندسة كالخط والدائرة. وهو ما استغلته بعض الشركات الغربية، ذات الطابع التجاري والتي تهدف إلى إيجاد سوق لمنتجاتها، لحل الإشكال بسرعة، كما يفسر العدد الهام من أحرف الطباعة التي أنتجتها هذه الشركات والتي مكنت من العودة لبعض الخطوط من جديد بفضل الإمكانيات الهائلة للحواسيب الميكروية ولتكنولوجيا الطباعة التي صحبتها والتي حلت جل الإشكالات التقنية.
المصطلحات:
لقد تمخض عن الانفجار الإعلامي، الذي يعد بحق صفة القرن العشرين، انفجار في عدد المصطلحات بما فيها العلمية والتقنية. ويبلغ مثلا عدد المصطلحات المستحدثة سنويا في اللغة الإنجليزية ما يقرب من 9000 مصطلح وفي اللغة الفرنسية حوالي 2000، نسبة مهمة منها قدرت بـ80% خاصة بالمفردات التقانية بما فيها الحاسوب والإلكترونيات والشبكات المعلوماتية. ويطرح ذلك إشكالية إيجاد مقابلات لها باللغة العربية ويوضح المجهود الذي يفصلنا عن مواكبة التطور الحاصل في هذا الإطار. ومما لا شك فيه أن تناول المصطلح لا يمكن أن يحدث بمعزل عن قضايا اللغة عامة؛ حيث إنه في الوقت الذي يعكس مستوى التقدم/التخلف الذي تعيشه اللغة والناطقين بها والقائمين عليها، فإنه يطرح إشكالات متعددة بعضها موضوعي والآخر ذاتي.
فمن الناحية الموضوعية نجد أن اللغات وكذا الوسائل المتاحة لصياغة المصطلح الجديد متعددة. فمن حيث اللغات، إذا كانت اللغة الإنجليزية التي هي لغة إنتاج المصطلحات نظرا لسيطرتها على المجالات العلمية والتقنية بما يتراوح بين 80 و85% حسب الميدان، فإن النقل يقع عن لغات أخرى بما فيها الفرنسية والإسبانية وما عداهما، ولربما كانت هذه اللغات هي بدورها ناقلة أو مترجمة للمصطلح. ويطرح ذلك، من جملة ما يطرح، إشكالية وجوب تحديد عن أية لغة يجب أن نترجم أو على الأقل الالتزام بالترجمة عن اللغة الأصلية للمصطلح.
بالإضافة إلى إشكال تعدد اللغات، هناك إشكال آخر مرتبط بالوسائل المتاحة لصياغة المصطلح الجديد. فبالإضافة إلى الترجمة التي تقتضي نقل معنى المصطلح الأعجمي، هناك الاشتقاق الذي يعني ترجمة المصطلح بكلمة عربية في معناها، وهناك المجاز الذي يعني ترجمة معنى المصطلح بكلمة عربية وتحميلها معنى جديدا. ثم هناك النحت الذي يقتضي ترجمة المصطلح بكلمة تستنبط من كلمتين عربيتين فيهما تناسب بين المنحوت والمنحوت منه لفظا ومعنى، وهناك التركيب المزجي وهو ترجمة المصطلح بكلمتين مستقلتين. ثم هناك أخيرا الاقتراض ويقوم على تطويع شكل الكلمة الأجنبية في اللفظ والنطق وتقريبها من البناء العربي للكلمة.
إن تعدد الوسائل المتاحة لصياغة المصطلح إضافة إلى تعدد مراكز التعريب المهتمة بتعريب المصطلح في العالم العربي وكذا عدد البحاثة واللسانيين المهتمين بالموضوع وتدخل الذاتيات المتعلقة بالنزعة الإقليمية، التي لا يخلو منها قطر من الأقطار، وكذا قلة الدراسات المنهجية وغياب التخطيط الملزم للجميع وضعف التنسيق، الخ، كل ذلك يؤدي إلى تشتت في الجهود المبذولة وتعدد في عدد المقابلات للمصطلح الأجنبي الواحد وانعدامها بالنسبة للآخر. كما يؤدي إلى إبطاء في ظهور المصطلحات ومواكبتها للتطورات المتواترة فضلا عن الاعتراف بها وتبنيها من طرف الأقطار العربية على المستوى الرسمي، ثم استخدامها في جميع مستويات الحياة العامة والخاصة (البحث العلمي، الإعلام، التدريس، التواصل اليومي، الخ).
وبالرغم من السلبيات المطروحة، فإن أعمالا متعددة قد أنجزت في ميدان المصطلحات المعلوماتية من طرف الجامعة العربية أو بعض المنظمات القطاعية التابعة لها أو من طرف بعض مراكز التعريب المحلية أو من طرف الأفراد، فضلا عن الجامعات. ومن بين أهم هذه الأعمال المعجم العربي الموحد لمصطلحات الحاسبات الإلكترونية الذي أنجز من طرف المنظمة العربية للعلوم الإدارية سنة 1981 والذي يضم 3414 مصطلحا، والمعجم الموحد لمصطلحات المعلوماتية الذي أنجز من طرف مكتب تنسيق التعريب بالمغرب والذي من المنتظر أن يصدر خلال السنة الحالية 2000. ثم هناك معجم المعلوميات، الذي أنجز من طرف معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالمغرب في أواخر التسعينات والذي يضم بدوره أكثر من 3000 مصطلح.
على أن الساحة لا تخلو من بعض المحاولات الفردية والتي أسفرت على ظهور أكثر من عشرة معاجم خلال الثمانينات، أغلبها نشر من طرف دور لبنانية ومنها معجم الكيلاني لمصطلحات الحاسب الآلي من تأليف تيسير الكيلاني ومازن الكيلاني، الذي صدر من مكتبة لبنان سنة 1987 وكذا معجم مصطلحات الحواسيب الذي صدر عن الدار العربية للعلوم بلبنان سنة 1990 وغيرها. على أن هناك أعمالا أخرى في طور الإنجاز، منها مشروع خاص بـ"معجم مصطلحات تقنيات المعلومات والحواسيب" الذي يشتغل به مكتب تنسيق التعريب التابع للجامعة العربية حالية.
بالإضافة إلى معاجم المصطلحات، هناك توجه إلى إنشاء بنوك للمصطلحات الحاسوبية ومنها BASIM (1994). Saudi Arabian Terminology Databank : An Encyclopedic Dictionary of Cumputer Terms on CDROM. King Abdulaziz City for Science & Technology, Riad. ويتميز بنك المصطلحات على المعجم التقليدي بتفتحه على إمكانية متابعة الجديد من المصطلحات بصفة مشتركة بين بحاثة تفصلهم المسافات الطوال على مدى الرقعة الجغرافية العربية بل وحتى الأجنبية. ولربما كانت بنوك المصطلحات الحاسوبية بداية لعمل مشترك بين الدول العربية على شاكلة بنوك المصطلحات للناطقين بالفرنسية أو الألمانية أو الروسية، وكذا بنوك المصطلحات التي يقوم المركز الدولي للمصطلحات INFOTERM في فيينا بتنسيق جهودها، والتي تتجاوز الحدود السياسية لتعمل في إطار لغوي واضح همه الوحيد تجديد المعاجم والسير بها نحو مواجهة الزيادة المطردة في عدد المصطلحات المعلوماتية والإلكترونية.
ويظل الرأي السائد بين المختصين يقضي بأن المجهودات العربية في مجال المصطلحات الحاسوبية غير كافية بدروها لتحقيق التفاعل المطلوب بين اللغة العربية من جهة وبين التقدم الحاصل في ميدان التقنيات بما فيها المعلوميات من جهة أخرى.
معالجة الصوت:
بالإضافة إلى معالجة المكتوب، هناك اتجاه على مستوى عالمي نحو معالجة الصوت، وذلك بجعل الحاسوب يتعرف على صوت المستعمل أولا، ثم بجعله يقوم ثانيا بعملية تركيب ثم ثالثا بعملية تحليل. ويحدث ذلك عن طريق تحويل النص من شكله الإملائي أو المكتوب إلى شكل صوتي أو منطوق (رموز صوتية) عن طريق استخدام خوارزمية خاصة مرتبطة باللغة. والهدف من هذه العملية هو تمكين الحاسب من استعمال اللغة المحكية، كما هو الشأن بالنسبة للغة المكتوبة، وهو من أهم أهداف الجيل الخامس من الحواسيب الإلكترونية؛ رغبة من مصمميها في أن يغزوا، بالإضافة إلى المكاتب والمصانع والمخابر وأنظمة الاتصال، التعليم الأساسي وكذا المنازل. من ذلك تبدو الحاجة ملحة إلى لغة سهلة في إمكانها مواجهة كل الحاجيات، كما تظهر الحاجة إلى نظام قادر على تركيب عدد غير محدود من المفردات والجمل.
وتحدث معالجة الصوت عن طريق نظم التعرف على الكلام اعتمادا على ميكروفون يلتقط الكلام الذي يحول، عن طريق نظام خاص، المنطوق إلى مكتوب يسجل في الذاكرة أو على شاشة العرض. ويشمل التعرف على الكلام آليا على ثلاث حالات مختلفة: التعرف على الكلمات المنفصلة والكلمات المتصلة كما على تعابير الوجه وخاصة الشفاه. ولا تخفى مدى الأهمية التي تحتلها هذه الأخيرة بالنسبة لتعليم الصم والبكم ولإشراكهم في مجالات الحياة العلمية والتقنية بالإضافة إلى الحياة العامة.
وتعتمد معالجة الصوت أساسا على النظام الصوتي للغة. ويشمل النظام الصوتي للغة العربية 35 فونيما Phonems بين الحروف الصامتة التي يبلغ عددها كما أسلفنا 28 (وتصل إلى 29 إذا ما أضفنا إلى ال28 السابقة الذكر اللام المفخمة) والمصوتات الست التي تشمل المصوتات القصيرة (الفتحة والضمة والكسرة) والمصوتات الطويلة (الألف والواو والياء). كل ذلك إضافة إلى وجود فونيمات حلقية وأخرى حنجرية وثالثة مفخمة فضلا عن الإدغام وعن إمكانية قلب المجهور مهموسا. ومن الملاحظ أن تطبيقات تعامل الحرف العربي المنطوق مع الحاسوب تتوقف على مختلف السمات المميزة للفونيمات على اختلاف أشكالها المنطوقة مما يوضح صعوبة تناولها بالدرس والتنقيب وإيجاد حلول نهائية لها. وتحاول بعض الجهات العربية مواكبة ما يجري في هذا المجال. وتظل الأبحاث متعددة ومشتتة، مما تبقى الحاجة ماسة إلى الجمع والتنسيق فيما بينها.
وما قيل عن معالجة الصوت يمكن أن يقال عن التعرف على الحرف العربي بطريقة ضوئية أو مغناطيسية، فيما يتعلق بتشتت الجهود. على أن استخدام هذه الطريقة في تخزين الوثائق وقراءتها قد اجتاز مراحل متقدمة جدا مقارنة مع معالجة الصوت.
التجهيزات والمعدات:
بالإضافة إلى الحروف والمصطلحات، تعتمد حوسبة اللغة العربية على تعريب التجهيزات والمعدات الضرورية لذلك. ويتعلق الأمر أساسا بلوحات المفاتيح والمطاريف والطابعات، وكذا بنظم التشغيل والبرمجيات.
لوحات المفاتيح، المطاريف والطابعات:
اجتاز تعريب التجهيزات ذات العلاقة بأحرف اللغة العربية كلوحات المفاتيح وشاشات المطاريف والطابعات مراحل متعددة؛ فبعد مرحلة من التذبذب ومن المحاولات الفردية لمصنعي الحواسب، أدى ظهور الشفرة العربية الموحدة ASMO 449 والمعيار الدولي Multibyte-coded caracterset ISO/IEC 10646 إلى اعتمادها على نطاق واسع خاصة لتصميم وإنتاج مطاريف مزدوجة، ثم كان لظهور الحواسب الميكروية القادرة على تصميم أشكال مختلفة من الحروف وكذا تخزينها واستعمالها، أثر كبير على تعريب الأجهزة المختلفة.
وتجدر الإشارة إلى أنه لم يحصل الاتفاق ولحد اليوم على تقييس لوحة المفاتيح من طرف الأقطار العربية بالرغم من المحاولات المتعددة والتي يرجع أولها إلى آخر السبعينات وآخرها إلى أواخر التسعينات. ذلك أن من بين هذه الأقطار من يفضل وضع المحارف على الملامس على طريقة الآلة الكاتبة ومنها من يتبنى وضعها اعتبارا لتواتر ورود المحارف وثنائياتها من جهة، ولسرعة وصول أصابع اليد إلى الملامس من جهة أخرى. مما يفسر وجود لوحات مفاتيح متعددة على الساحة التجارية. وليس لذلك أي تأثير على الكتابة بل على سرعتها فقط.
ويمكن تقسيم المطاريف الموجودة اليوم إلى نوعين: إحداها عادي والآخر ذكي. فيما يخص المطراف العادي نجد أنه يعتمد أساسا على الحاسوب في القيام بالمعالجة الضرورية، أما المطراف الذكي Intelligent terminal فيقوم بالعمليات الضرورية لإخراج حروف متعددة بما فيها العربية. ومن سماته أنه يطبع باتجاهين ابتداء من اليسار (لمعالجة اللغات اللاتينية) ومن اليمين (لمعالجة العربية والفارسية، الخ). ويختزل دوره، فيما يتعلق باللغة العربية مثلا، في خزن الأشكال المتعددة لحروفها ولعدة أقلام ويقوم محليا باستعمال خوارزمية تحليل السياق (CAA)، وهو ما يجعله قادرا على إخراج خطوط عربية عالية التعقيد والجمال. وقد ساهم المطراف الذكي في حل إشكالية استعمال الحرف العربي على الشاشة بصفة نهائية؛ مما يبرر كونه الأكثر استعمالا، سيما بعد أن عرفت أثمانه انخفاضا هاما خلال السنوات الأخيرة.
ومن الضروري أن نشير إلى أن جميع الإشكالات المتعلقة بلوحات المفاتيح وكذا بالمطارف (الشاشات) والطابعات قد حلت بصفة نهائية.
نظم التشغيل والبرمجيات:
تكتسي نظم التشغيل أهمية وظيفية بالغة منحيث أنها تكون العمود الفقري الذي تنبني عليه الحوسبة؛ فهي التي تمكن الوحدة المركزية للحاسوب بشقيها (الأول الذي يعني بالمعالجة المنطقية والحسابية والثاني الذي يهتم بالإشراف والتنسيق بين عمليات وحدات الإدخال والإخراج) من الاشتغال بالدقة والسرعة المطلوبين. ومن الملاحظ أنه خلافا لترجمة الحرف ولإيجاد المصطلح وكذا التقييس، التي هي في كنهها قضايا عربية-عربية، فإن الشق المتعلق بالنظم والبرمجيات يقتضي المشاركة الفعالة لمصنعي الحواسيب. وقد استفاد هؤلاء من ظهور الحواسيب الميكروية التي كان لها وقع الثورة نظرا للإمكانيات التي أتاحتها فيما يتعلق بإضافة بعض التجهيزات إلى نظام التشغيل أو بعض البرامج لتمكينها من إدخال الحروف العربية وخزنها واستخراجها كنافذة، كما أنهم غالبا ما اعتمدوا خبرات عربية لإصدار نسخ من نظم للتشغيل قادرة على التعامل مع اللغة العربية إدخالا ومعالجة واسترجاعا وظهورا على المطارف واستخراجا فيما بعد من الطابعات.
على أن المحاولات العربية في هذا المجال وإن اقتصرت في بدايتها على استنباط نظم تشغيل خاصة بالحواسب الشخصية والعائلية فإنها ذات أهمية قصوى. ومن بين هذه المحاولات التجربة الكويتية التي أعطت للعالم العربي "صخرا" والذي كان يعمل في بدايته بنظام MSX الياباني المعرب، والذي تمكن في إصداره الثاني من التعامل مع نظم التشغيل DOS (بما فيها MS/DOS5 وMS/DOS6 وPC/DOS). وهناك تجربة شركة "ALIS" التي يديرها الحليمي بكندا والتي بعد أن صممت نظاما عربيا أسمته ARABIC/DOS موائم لنظام MS/DOS أدمجته في نظام التشغيل MS/DOS الأمريكي وأصبح يحمل اسم ARABIC MS/DOS. وهو حل جذري مندمج في نظام التشغيل MS/DOS، وتكمن أهميته في تمكينه للحواسيب المشتغلة بهذا النظام من التعامل مع الحرف العربي بنفس الطريقة التي تتعامل بها مع الحروف اللاتينية. ثم هناك يونكس المعرب ABCIX، ويرتكز أساسا على جعل UNIX نظاما عالميا يستعمل كل اللغات بما فيها العربية، كما تتوفر فيه كل الخصائص الإيجابية لمعالجة النصوص والبيانات المكتوبة بالحروف العربية واللاتينية في نفس الوقت، وذلك اعتمادا على المجهودات المبذولة من طرف مجموعة X/OPEN.
أما ما يتعلق بلغات البرمجة فإن ترجمة أهم ما وجد منها، مثل FORTRAN وCOBOL وBASIC وPASCAL وPROLOG، هي في أغلبها من صنيع مختبرات الجامعات والمدارس العربية أو بعض مراكز التعريب في العالم العربي، أو الشركات العربية التي حاولت تجميع وتسويق حواسيب عربية مثل "صخر" و"الرائد" و"الأمير" و"الفارابي" وغيرها. على أن معظم لغات البرمجة العربية أو المعربة موجهة إلى نوع من التطبيقات التي تستغل على الحواسيب الميكروية.
ويظهر من خلال التجارب المتعددة، بما فيها تجربة شركة ALIS مع ARABIC MS/DOS، أن قوانين السوق والعرض والطلب غالبا ما أملت على مصنعي الحواسيب بالإضافة إلى اعتماد الخبرات العربية تبني أعمال موضوعة أصلا بالعربية.
الشبكات الحاسوبية والخدمات الاتصالاتية:
إن تقنيات الاتصال الحاسوبي المتواجدة اليوم تتيح لكل الأقطار العربية أن تقيم شبكات سواء على المستوى القطاعي، الوطني أو الإقليمي. إلا أن اهتمام الأقطار العربية بإقامة هذه الشبكات يبقى محدودا. وتظهر "شبكة مجلس التعاون الخليجي" Gulfnet كدليل على الإمكانيات التقنية المتاحة في هذا المجال، ونفس الشيء يمكن أن يقال عن "شبكة معلومات دول الخليج" و"الشبكة العربية للمعلومات الصناعية" و"شبكة دول المؤتمر الإسلامي".
إلا أن الخدمات الاتصالاتية باللغة العربية لازالت نادرة وينعكس ذلك على مدى استعمال هذه اللغة في الشبكات وتطبيقاتها وكذا في تقييس هذا الاستعمال والتطبيقات المتعلقة به. وتظهر من خلال ذلك ضرورة القيام بمجهودات متعددة في هذا الميدان ليس أقلها تحسيس المسؤولين على مستوى القرار بأهمية بلورة وتطوير الخدمات الاتصالاتية باللغة العربية وتخصيص الإمكانيات الفكرية والمادية التي من شأنها أن تدفع بها لمسايرة التطورات الحاصلة، فضلا عن المشاركة في المنظمات الدولية المشتغلة بالتقييس والدفع بها إلى أخذ متطلبات اللغة العربية وخصوصياتها بعين الاعتبار في المعايير الدولية.
الخاتمة:
لقد استعرضنا في الصفحات السالفة الوضعية الراهنة للغة العربية في مواجهة الحاسوب بأجهزته ومعداته ونظمه، كما أشرنا إلى المشاكل وكذا الحلول المقترحة لمواجهتها وأبرزنا ضرورة بذل جهود إضافية لمواجهة الإشكاليات العالقة. حيث يظهر أن تعريب الحاسوب مر عبر ثلاث مراحل: الأولى مرتبطة بتطويع إدخال وإخراج (أو حوسبة) الحرف، والثانية متعلقة بتعريب التطبيقات الحاسبية والبرمجيات، وأما الثالثة فتعنى بتعريب نظم تشغيل الحواسيب نفسها وتعريب البرمجيات وذلك في نطاق ما يسمى بعملية تدويل البرمجيات. ويتعلق الأمر بمنهجية حديثة تبنتها الشركات المنتجة سيما على المستوى الدولي.
على أنه وبالرغم من المجهودات وكذا الإمكانيات الفكرية والمادية المخصصة فإن عملية التعريب لم تتمكن من استنباط معلوميات عربية تصميما وإنجازا سواء على مستوى الأجهزة أو البرمجيات؛ حيث أن أغلب ما يوجد اليوم على الساحة هو تعديل لنظم أجنبية بشكل يجعلها تتلاءم مع متطلبات السوق العربي. على أن ذلك لا يمنعنا من الاستنتاج بأن الكفاءة الفكرية، سواء منها الموجودة في العالم العربي أو المهاجرة أو التي تتوفر عليها الشركات المصنعة للحواسيب، العربية منها والأجنبية، هي كفاءات قادرة على تطويع التقانة بشكل يجعلها تواجه التطورات الحاصلة في الميدان. علما بأن تجربة العشرية الأخيرة، على الخصوص، قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأن التكنولوجيا والأجهزة الذكية تتطور باستمرار لتلائم حاجيات اللغات، بما فيها العربية.
وتظل ضرورة بذل جهود إضافية من طرف البحاثة ومراكز التعريب والبحث العلمي في العالم العربي قائمة، سيما فيما يتعلق بالتقييس وبإحداث معايير عربية موحدة وكذا مصطلحات تمكن من استدراك ما فات ومواجهة ما يطالعنا من جديد في كل لحظة. كل ذلك فضلا عن التطلع إلى استخدام وتطويع أحدث المنتجات والآليات التي يتوافر ظهورها في السوق، واستقطاب الكفاءات العربية في الداخل ومن الخارج بشكل يمكن من إضفاء البعد الثقافي على المنتجات الحاسوبية. ولعلنا في حاجة إلى مشروع متكامل ومشترك بين مختلف الأقطار العربية وإلى "رؤيا" مستقبلية n